لهذا أحببت عمر

منذ أن وعينا هذه الدنيا ونحن نربى على حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتقرب لله عز وجل بحبهم، فعرفنا قصصهم، وحفظنا أقوالهم، وتدارسنا صفاتهم إلى أن سكن حبهم سويداء قلوبنا، وأصبحوا الرموز الذين نحاول الاقتداء بهم ما حيينا. رغم حبي لهم جميعا رضوان الله عليهم، وتعظيمي لما قاموا به من خدمة للإسلام ونصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الفاروق عمر بن الخطاب يظل الأميز بالنسبة لي، وإعجابي به كبير جدا لدرجة أنه أصبح أقرب للأسطورة من كونه رجلا تاريخيا إسلاميا. ولطالما سألت نفسي؛ لماذا عمر؟ وما سره الذي سحرني؟

إني حين أقرأ سيرته وأحلل شخصيته العظيمة، أرى أن المفتاح الثابت لهذه الشخصية وسبب تميزه هو إيمانه القوي، وغيرته الشديدة على الحق، فتراه لا يفتن بهذه الدنيا ولا تغريه عن نصرة الحق الذي يؤمن به. فهذه الشخصية نراها قبل إسلامه، فحربه على الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه كان منبعها إيمانه بمعتقد آبائه وأجداده وغيرته الشديدة لذلك الإيمان القوي، ولهذا السبب حين لاح له الحق المبين، آمن برسالة الإسلام مضحيا بعز القبيلة ومكانته بينهم، فتحولت الدعوة الإسلامية من دعوة سرية إلى جهرية.

ونرى كذلك هذه الشخصية الثابتة في العهد المدني، فحين عزم الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة على زعيم المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، أتاه عمر يرجوه عدم الصلاة عليه. وكان الدافع من هذا الرجاء غيرته على الحق الذي يؤمن به.

واستمرت هذه الميزة القوية في شخصية عمر في عهد خلافته، وهي واضحة في موقفه حين طلب من المسلمين التخفيف من المهور، فاعترضت امرأة من المسلمين وقالت: «يا عمر يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول: .. وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا» فقال عمر: «أصابت امرأة وأخطأ عمر»، وهنا يتضح أن غيرة عمر رضي الله عنه على الحق تجعله يضحي بمكانته وموقعه من أجل هذا الحق ولم تأخذه العزة بالإثم.

وحين نرى مسيرته مع الحياة بشكل عام، نرى أنه بدأ حياته راعيا بسيطا لا يعرفه أحد في مكة، حتى أصبح أميرا للمؤمنين في دولة توسعت فيها الفتوحات، وتحت تصرفه كنوز وثروات وأموال طائلة، فأمسى ليس بينه وبين الله أحد، إلا أن ذلك كله لم يفتنه، وعاش ناصرا للحق غيورا عليه. فشخصية بمثل عمر رضي الله عنه أصبحت تعد من وحي الخيال، فأين منا من غيرته على الحق تثنيه عن مطامعه الشخصية؟ وأين منا من يشارك المسلمين المجاعة فيحرم على نفسه السمن وهو أمير المؤمنين وخزائن الدولة بيده؟ أين منا من يسائل ابنه عن قميص جديد؟ أين منا من ينام تحت شجرة بعيدا عن العباد خاشيا رب العباد؟ أين منا من تقبل عليه الدنيا بكل ما فيها ويتركها زاهدا بها؟ آه ما أصعب تكرار عمر.

قفلة:

وصفت أم أبان بنت عتبة بن ربيعة عمر قائلة: «إنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، وكأنه ينظر إلى ربه بعينه».

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

شهر بلا هاتف ذكي

التجربة:
قررت أن أستغني عن هاتفي الذكي (آيفون) لمدة شهر كامل واستبداله بالجوال العادي الذي كنا نستخدمه قبل عشر سنوات من الجيل الثاني (2G)، فلا برامج ولا انترنت، فقط استقبال وإرسال المكالمات والرسائل النصية (SMS). أما البرامج المتعلقة بالتواصل الاجتماعي والانترنت فيمكنني الدخول إليها عن طريق جهاز الحاسب، متى ما سنحت الفرصة.

الأسباب:
لاحظت أني – كغيري من مستخدمي الهواتف الذكية – تعلقت بهذا الجهاز السحري، فلا يمكنني الاستغناء عنه أبدا، لا أستغني عنه في المجالس ولا في الاجتماعات والمناسبات، فهو معي أينما أكون، وعيني لا تغيب عنه أكثر من 10 دقائق، تعلقت به حتى وصلت لمرحلة لم يعد لي الوقت للتأمل والتفكر، فكلما شعرت بفراغ بسيط، أشغلت نفسي بهذا الجهاز الذي بين يدي.
ولاحظت أيضا أني أصبحت أنسى أكثر من أي وقت مضى، فالمواعيد الضرورية التي لا تدون في جهازي أصبح الصبح ناسيها، وكذلك كثير من المواقف والأحداث المهمة كلها تنسى؛ بسبب انشغال عقلي الصغير بأخبار هامشية ونقاشات عديمة الفائدة متناولة في برامج هذا الجهاز الذكي. ومما لاحظته أيضا، الشعور بالملل بشكل سريع من الحياة الحقيقية، فما إن شعرت به حتى أخرجت هذا الجهاز الصغير ليدخلني إلى عالم افتراضي لا يمل، ولذلك قررت أن أخوض هذه التجربة.

النتائج:
في بداية الأمر، شعرت بفقدان شيء أساسي من حياتي فأصبحت كالمشلول عن التحرك بدونه، فكل نصف ساعة أدخل يدي في جيبي باحثا عن أنيسي، لأنصدم بالواقع أن في جيبي أداة أصبحت من الزمن القديم لا تلبي احتياجاتي. كان شعورا صعبا وغريبا، ولكن مع مرور الأيام لاحظت أشياء جميلة كنت قد افتقدتها العشر السنوات الماضية.
فإنتاجيتي في العمل زادت لخلو يوم عملي من أهم الملهيات في العصر الحالي. ومع هذه التجربة، أصبحت لا تشغلني من أخبار العالم إلا القليل المهم، لا القضايا الهامشية والتافهة. وبدون الجهاز الذكي، أصبح حديثي مع جلاسي أكثر من السابق، وأعرف أخبار أصدقائي الحقيقيين أكثر ممن أتابع من الوهميين. وفهمت لماذا يغضب البعض من وجود الهواتف بين أيدي الناس في المجالس، فكم هو شعور قبيح أن ترى من يجلس معك ينشغل عنك بمشاهدة صور أو مراسلات لا قيمة لها، فتحس بقلة الاحترام. ومما أدهشتني به النتائج هذا الشعور الجميل بالخلوة مع النفس ومراجعتها والتأمل والتفكر، فيا الله كم هو جميل هذا الشعور وضروري. شعور افتقدته لدرجة أني استغربته ويصعب علي شرحه.
رغم قلة ما فقدته بفقدان الجهاز الذكي، إلا أنها ضرورية فلقد فقدت المعلومة السريعة التي بين اليدين، والبحث عن الأماكن وترتيب جدول الأعمال في جهازي، وسهولة إنجاز أعمالي في أي وقت ومكان.

الخلاصة:
إن الجهاز الذكي من أساسيات عصرنا هذا، وهو وسيلة لتسهيل الحياة، ولكن كما يقال في المثل الشعبي «كل شيء إن زاد عن حده انقلب ضده»، فالاتزان في استخدامه هو الأمثل، ولا يجب أن نقتني الجهاز الذكي لنصبح نحن أقل ذكاء وأبعد عن الواقع.

قفلة:

بعد التجربة اتضح لي أن الحياة جميلة وتدعو إلى التفاؤل، وأن العالم أوسع من جهاز يحمل في اليد، وأن الدنيا ولله الحمد لا تزال بخير.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

لسنا يابانيين

إننا وبطابع حبنا للمقارنة دائما ما نقارن أنفسنا بالغرب والشرق على أنهما أفضل منا حالا وأصلح منا وضعا وأكثر منا تقدما. فنأتي بخبر وزير ياباني قدم استقالته بسبب خطأ في مؤسسته ونتغنى به، ونقول: ليت عندنا مثله فهذا سبب لتقدمهم، ثم نأتي بتاجر أمريكي يعرض ثروته لخدمة قضية معينة ونقول: ما أكرمهم لخدمة الإنسانية أين تجارنا من هذا الرجل الذي تحلى بخلق نحن أحق به منه. كل هذه المقارنات يراها البعض أنها جلد للذات، ولكن هل هي فعلا جلد للذات؟

إن من يجلد المسؤول العربي بمقارنته بالمسؤول الياباني ليس مسؤولا فلذلك هذا لم يكن جلدا للذات بقدر ما هو جلد للمسؤول العربي بشكل عام، والمتغني بالتاجر الغربي ما هو إلا ممتعض من التاجر العربي، فالانتقاد هنا ليس انتقادا للذات إنما هو انتقاد فئة من المجتمع لا ننتمي لها. إن هذه المقارنات التي نكثر من استخدامها جعلتني أفكر في نتائجها والهدف منها. هل مقارناتنا عادلة وصحيحة؟ وما هي الدوافع خلف هذه المقارنات التي تتصدر آراءنا ومقالاتنا في الصحف؟

يبدو لي أن قناعة كثير من الناس أن أي مسؤول في الخدمة العامة إما فاسد أو قليل الكفاءة ما لم يثبت العكس. فما إن يتول المسؤولية حتى نتصيد الأخطاء وإن حدث الخطأ، نطلب منه أن يكون كوريا أو يابانيا ليقدم استقالته. وفي الحقيقة، ننسى أننا أصلا لم نكن كوريين أو يابانيين في ظننا به وسعينا في إنجاحه. إن الخطأ وارد، ومن لم يخطئ فهو بالتأكيد لم يعمل. فالروح والقناعات التي نتبناها نحن المخدومين وأصحاب الرأي تحبط من يريد العمل فتراه دائما في خوف من الخطأ ومن ردات الفعل التي نقسو فيها، فيتجه إلى الركود بدلا من العمل. إننا في هذا السعي الحثيث عن البحث عن الأخطاء نهدف ونتمنى أن يعاقب المخطئ أو يعفى من مسؤوليته وكأنها غاية بحد ذاتها، وننسى أن الغاية أن نصحح الخطأ بدلا من معاقبة المخطئ.

أما نظرة الكثير منا للتاجر العربي فهي أنه جشع ومادي وأناني ومستغل لخيرات البلد لصالحه، إلا إن أثبت العكس وهذا ما يصعب إثباته. فمهما قدم للوطن وخدمة للمواطنين فهو يقدمه لمآرب أخرى غير حبه لوطنه. فترانا نسعد إن قرأنا خبر خسائر التاجر الفلاني، أو تغريم أحد رجال الأعمال، دون أن نعرف الأسباب وتفاصيل الأخبار. المهم أننا نسعد بالعقوبة وكأنها هي الغاية وننسى أن العقاب وجد كوسيلة للردع وليس غاية للتشفي.

إن مقارناتنا مع الغرب والشرق مقارنة من زاوية واحدة فقط، فتجدنا نقارن المسؤولين والتجار ولا نقارن العاملين وأصحاب الرأي. لذلك أرى أننا بدلا من جلد الآخرين من المجتمع ومقارنتهم بالآخرين، نبدأ بمراجعة النفس وتصويبها فـ «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».

علينا بحسن الظن بالآخرين لتسود الإنتاجية والثقة والتقدم، وعلينا بالابتعاد عن التشفي والشماتة فهما صفة غير محمودة، فلم ترد في سيرة نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم أنه تشفى من مشرك أو تشمت بعدو رغم ما عانى منهم، بل حتى إنه عفا عنهم بقولته المشهورة صلى الله عليه وسلم «اذهبوا فأنتم الطلقاء». فأين نحن من هذا الخلق العظيم؟

قفلة:

بما أننا نقارن أنفسنا باليابانيين، أنقل لكم هذا المثل الياباني اللطيف: «النجار السيئ دائما يلوم أدواته».

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

تشكيل السائد

يثير اهتمامي تصرف البشر في مجتمع ما وأحاول أن أفهم ما هي الأسباب التي توحد بعض المظاهر والتصرفات لدى المجتمع، وكيف تتغير من جيل إلى آخر. فمثلا مظاهر اللباس في السعودية، وهو أسهل الأمور الملاحظة، تغيرت بشكل سريع، فلو شاهدنا صور الرجال السعوديين في الثمانينات الميلادية نرى الشنب الثقيل والثياب والأشمغة هي السائدة، وفي المقابل لو نظرنا إلى سائد اليوم، فالأمر تغير بشكل رهيب، والتغير هنا ليس تغيرا في معتقد بقدر ما هو تغير المظهر السائد والقبول بعادات جديدة من اللباس. وهذا يعد جزءا بسيطا من متغيرات كثيرة وكبيرة في المجتمع من مناسبات الأعراس، وابتعاث الدراسة، وسهولة السفر للسياحة وكثرة الذهاب إلى المطاعم وغيرها. هذه الأمور دعتني إلى أن أتساءل: من يؤسس العادات في المجتمع؟

إن الإنسان في سلوكه وتصرفاته – كأي كائن حي – يتأثر بالعدوى، والتأثير لا يحتاج إلى منطق أو تفسير عقلاني. والأمثلة التي تؤيد هذه النظرية كثيرة، ولكن لعلي أعرج على مثال استنكرته قبل أيام وهو نظرة أهل الفن لأعمال الرسام التشكيلي الهولندي فان جوخ التي كانت معدومة القيمة في حياته، ولكن بعد انتحاره أصبحت من أهم وأغلى الأعمال في العالم. فكيف تحول فن عديم القيمة إلى فن يقيم بملايين ويتلهف عليه البشر، إلا من خلال العدوى اللاعقلانية التي يتأثر بها الجمهور تقليدا لبعض النقاد. فأثر العدوى ليس فقط محصورا في الملبس والسلوك بل حتى في الذوق والآراء.

مهما كان الإنسان مستقلا وصاحب رأي إلا أنه يتأثر بمن حوله وتقوده عاطفته إذا ما كان ضمن جمهور أو مجتمع أو بلد، ويمكن قياس هذا التأثير وفهمه بما يسمى بالربيع العربي، ففي بداية عام 2011 لم يحتج الناس في دول عربية إلا لإعلام يهيج فكرة ثورية تبناها بعض من الجمهور العاطفي فانضم لها الملايين. والغريب أنها بدأت في دولة ثم انتقلت إلى دول مجاورة. والمحرك الأهم لهذه الثورات هي العدوى اللاعقلانية.

وقد فسر هذه الظواهر مؤسس «علم نفسية الجماهير» الفرنسي جوستاف لوبون بقوله «عندما يكون الفرد معزولا ربما يكون إنسانا مثقفا متعقلا، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقودا بغريزته وبالتالي همجيا. وهو عندئذ يتصف بعفوية الكائنات البدائية وعنفها وحماستها وبطولاتها أيضا».

إن هذه الأمثلة البسيطة وغيرها مما نشاهد بشكل مستمر توضح لنا كيف أن تصرف البشر وعاداتهم وحتى ذوقهم يتأثر بالعدوى. ولكن من يمتلك هذه القوة الهائلة في نشر العدوى؟ يملكها كما وضحها لوبون في كتابة «سيكولوجية الجماهير» من يمتلك إحدى الهيبتين: الهيبة المكتسبة وهي هيبة تكتسب بالمنصب والمال، أو الهيبة الشخصية وهي الملكة التي لدى بعض القادة الكبار في سحر الناس بكلماتهم وحضورهم وإطلالاتهم، إنها الهيبة المبنية على الكاريزما التي يمكن لمن يملكها أن يطوع جمهوره فيما يرى بأقل جهد وبلا منطق يسنده.

وبما أن العالم الواسع أصبح صغيرا بفضل وسائل الاتصال التي أصبحت في متناول الأيدي، فلا غرابة في التغييرات السريعة في مجتمعنا، وتأثر الكثير من الصغار بمن يملك الكاريزما من بيئة غير بيئتنا. لذلك فإننا مهما حصنا أنفسنا بمناهج ونصائح وتحذيرات، إن لم يكن الوالدان مؤثرين، والمعلم قدوة محبوبا، وإمام المسجد مفوها، والإعلام هادفا، فلا يمكن أن يكون لنا أثر في تشكيل عادات وسلوك الأجيال القادمة، فالتغيير بالعدوى لا بالمنطق والحجة.

قفلة:

فهم العرب قديما أثر العدوى في تشكيل الشخصية فقالوا «قل لي من تخالل أقل لك من أنت».

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

اليتيم والكويتية

إن قراءة القصص من الأساليب المحببة للقارئ، فمنها يستنبط الدروس ويتعرف على أحوال الآخرين وربطها بحاله. والقصة بشكل عام أسلوب قرآني كريم، فقد قال عز وجل عن كتابه في سورة يوسف «نحن نقص عليك أحسن القصص»، وكذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم باستخدام هذا الأسلوب مع الصحابة والمخالفين له فقال تعالى في سورة الأعراف «فاقصص القصص لعلهم يتفكرون»، ومن هذا المنطلق أحببت أن أنقل قصة بسيطة ولطيفة كما هي بدلا من سرد الدروس المستفادة، فالقارئ لديه القدرة على استنباطها أكثر من قدرتي على شرحها.

في إحدى الإجازات الصيفية التي قضيتها في الولايات المتحدة الأمريكية، ركبت أنا وأخواتي وقريبة لنا في سيارة أجرة يقودها رجل أمريكي من العرق الأبيض كبير في السن يتجاوز عمره الستين سنة. بعد تحركنا من موقعنا، أراه ينظر في المرآة للخلف حيث تجلس أخواتي وقريبتي وهو مبتسم. أطال النظر، وذلك يزعج الرجل العربي، فقلت له مستنكرا «ما الأمر؟ هل خلفنا سيارة تلاحقنا؟» وقصدت أن يوقف نظراته المزعجة، ولكنه ضحك وأشار إلى قريبتي «لا. ليست سيارة بل هذه الفتاة ذكرتني بابنتي». سألته مستغربا «ابنتك؟!» أجاب بهدوء الواثق «نعم. ابنتي من الكويت» لاحظ استنكاري، فشرح لي قصته فقال «أنا شخص عرفت الحياة وأنا في بيت للأيتام، لا أعرف أبواي ولم أعش حياة أسرية، وتعرفت على فتاة في ذاك البيت عانت اليتم مثلي، أحببتها وقررنا الزواج بشرط ألا ننجب أطفالا، ولكن نتبنى أكبر عدد من اليتامى الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم. وعشنا كذلك وتكفلنا بتسعة أطفال من مختلف بلاد العالم، من أفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية. كل طفل من دولة مختلفة، أما التي من الكويت فكانت أثناء غزو صدام للعراق، وكنت ممن شارك في الحرب مع الجيش الأمريكي، ووجدنا طفلة فقدت والديها في الحرب وتكفلت بتربيتها أنا وزوجتي فأصبحت ابنتي الآن، وهي التي تشبه الفتاة التي في الخلف». سألته «كيف الشعور وأنت تربي أطفالا لا يرتبطون بك بالدم؟ وكيف شعورهم تجاهك أنت وزوجتك؟»، قال «لا أعرف شعور الآباء تجاه أبنائهم ولكن بكل تأكيد ليسوا أكثر مني حبا لأطفالي التسعة، أحبهم أكثر من نفسي وهم جزء مني حتى لو لم يربطنا بهم دم، أما شعورهم فهم محبون لي ولأمهم وأوفياء معنا إلى أبعد درجة، فهم يزوروننا أكثر من زيارة أبناء الجيران لذويهم، حتى إن بعضهم لم يغادر المدينة التي نحن فيها سعيا لخدمتنا. إنهم جميعا يشعرون بالفضل تجاهنا ويقولون إننا أحببناهم باختيارنا وربيناهم طوعا، ليس كحب الآباء الحقيقيين لأبنائهم فحبهم مفروض عليهم بحكم رابط الدم وتربيتهم لأبنائهم تربية واجبة لا طوعا. أنا وزوجتي علمنا أبناءنا أحسن تعليم ووفرنا لهم بيتا آمنا وسعيدا، والآن أصبحوا موظفين ناجحين وأرباب بيوت سعداء ولديهم أبناء وبنات لم يشعروا باليتم الذي شعرنا به».

نزلت من السيارة وأنا منبهر مما سمعت، وذكرتها لكثير ممن عرفت وها أنذا أكتبها لكم لعلكم تجدون فيها ما يستحق القراءة.

قفلة:

يقول العملاق والأديب العربي نجيب محفوظ «وراء التضحية دائما إيمان قوي وليس مجرد اقتناع عقلي».

نشرت المقالة في صحيفة مكة

ماذا بعد اليوم الوطني؟

رحنا يوم السبت الماضي بالذكرى الـ87 لتوحيد المملكة العربية السعودية. غنينا، وغردنا، ورفعنا الأعلام، وحملنا الشعارات. فعلنا كل ذلك من أجل وطن عشقناه ونقدم أرواحنا فداه.

جميعنا ردد عبارة واحدة؛ عاشت المملكة العربية السعودية. وبعد ما انتهت سكرة الفرحة، سألت نفسي هل الوطنية تظهر في اليوم الوطني فقط؟

في الفترة الماضية استخدمت كلمت الوطنية كثيرا فهي أصبحت تعطى لشخص وتسلب من آخر وكأنه حق للجميع في منحها وسلبها.

إن الوطنية ليست بهذه السطحية للحكم عليها، فالوطنية ليست مشاعر يمكن إظهارها بأغان وشعارات، والوطنية لا تنحصر في رأي أو انتقاد، وبكل تأكيد فهي ليست جوازا أو بطاقة هوية. إن الوطنية أشمل وأعمق، وهي سلوك وطريقة عيش. نعم فالوطنية كما عرفها الفيلسوف ستيفن ناثنسون هو شعور بالحب لأرض الوطن، والانتماء له ولشعبه، والحرص على رفعته، والاستعداد للتضحية له.

إن الوطنية بهذا المفهوم تجعلنا نراجع حياتنا لنتأكد من مدى وطنيتنا. فهل نحن شعب نحب هذه الأرض؟ وهل هذا الحب ينعكس في سلوكنا في الشارع؟ هل نتبع القانون خوفا من سلطته حولنا؟ أم حبا لهذه البلد وبدافع ضمائرنا؟

هل صحاري هذه الأرض التي نذهب لنقضي أوقاتنا فيها نتركها كما تركنا بيوتنا النظيفة؟ هل نهتم بممتلكات الوطن ومقدراته؟ أم نستخدم مثل «جلد مب جلدك جره على الشوك“؟ وهل من الوطنية الإحساس بالأفضلية لأنك من هذه المنطقة وهو من تلك المنطقة؟ وهل من الوطنية التخلي عن الهوية واللغة العربية واستبدالها باللغة الأجنبية وبمظهر الغربي؟ ألا يمكن أن تكون متطورا ومتقدما وفي نفس الوقت عربيا سعوديا؟ وهل نحن المحبين لوطننا نخلص فيما نقوم به ونتمه على أكمل وجه حرصا على رفعته؟ أم إن العمل لا علاقة له بالوطنية؟ وهل نقدم مصلحة الوطن على مصالحنا ومصالح أبنائنا وأقاربنا؟ أم إننا نظن أن ”الأقربون أولى بالمعروف“ في كل الحالات؟ هل نجاحاتنا واجتهاداتنا على حساب الوطن؟ أم إنها لصالحه؟ هل اختلافات ثقافاتنا وقبائلنا سبب في فرقتنا؟ أم قوة لوحدتنا؟ هل ننافق لمكاسب شخصية؟ أم نصدق لمكاسب وطنية؟ هل نبحث عن أخطاء بلادنا لننتقدها ونكسب شعبية جماهيرية؟ أم إننا نبحثها لكي نعمل على تصحيحها؟

كل هذه الأسئلة وغيرها أطرحها مراجعة لوطنيتنا التي لا تظهر في احتفالات اليوم الوطني فقط بل يجب أن تكون معكوسة في سلوكنا في العمل وتصرفاتنا في الشارع وإنجازاتنا ومكتسباتنا الحياتية وتربية أبنائنا وبناتنا.

باختصار هذا الوطن يستحق منا جميعا أن نكون وطنيين بحق.

قفلة:

جميل ما قاله الرئيس الأمريكي لشعبه

لا تسأل ماذا يمكن للوطن أن يقدم لي، ولكن اسأل ماذا يمكن لي أن أقدم لوطني

جون كنيدي

نشرت المقالة في صحيفة مكة

ليس دينا بل رسالة متجددة

مع بداية كل عام دراسي، أراجع النظام التعليمي وأتقصى حال الطلاب، فأحضر الإذاعة الصباحية، وأتأمل طريقة إعطاء الدروس، وأراقب اللوحات الترحيبية والشعارات التحفيزية فأجدها لم تتغير منذ أن كنت طالبا في الابتدائية. ربما هذا النظام التعليمي والأساليب التربوية كانت نافعة مع جيلنا ومع الأجيال التي سبقتنا، وأعرف أنها مبنية على دراسات وأبحاث تربويين مختصين، ولكن هل هذه الأساليب لها نفس الأثر على الجيل الحالي؟

إن المفهوم الاجتماعي لمصطلح «جيل» هو المرحلة العمرية لأشخاص لا يمكن لمس فروقات كبيرة في الأفكار والأذواق والاهتمامات بينهم، وتقدر هذه المرحلة العمرية لدى كثير من علماء الاجتماع بثلاث وثلاثين سنة تقريبا. تناقشت مع صديق مقرب حول هذا التعريف، فوصلنا إلى أن الزمن الحالي ومع السرعة العظيمة للمتغيرات الثقافية والاجتماعية والتقنية نشأ لدينا أجيال داخل الجيل الواحد. فلو قارنا -ولا أحب المقارنة- بين الفروقات بين جيلنا وجيل أبي لوجدنا أن الفروقات موجودة ولكنها مقبولة ويمكننا التكيف معها. أما الآن فالطفل ذو السنوات السبع يختلف عن الشاب ذي الأربع عشرة سنة، فلا الاهتمامات متشابهة ولا اللغة نفسها، ولا حتى الذوق. ومع سرعة التغييرات وكثرتها كبرت الفروقات مما جعل الأطفال والشباب يعيشون في عالم مختلف تماما عن عالمنا وعالم آبائنا.

فلو نظرنا إلى حال المدارس، والمساجد ومجالس الرجال، فهي كانت بالنسبة لنا ولمن سبقنا المشكل الرئيس لشخصياتنا وثقافتنا، أما الآن فأشك أن تجد شابا أقل من عشرين سنة يمكن أن يستفيد من الدروس المعطاة في هذه الأماكن. فهو لا يفهم درس المعلم لأن المعلم يستخدم أسلوبا يمله الطالب، ولا يصغي لموضوع خطبة الجمعة لأنها لا تلامسه، ولا يركز في مجالس الرجال لأنه لا يفهم لغتهم.

يجب علينا الالتفات جميعا إلى أهم قضية في مجتمعنا ومراجعة أساليبنا فيها، فلا يمكن تجاهل هذا الخلل الكبير، والإصرار على تكرار الأساليب التربوية رغم ضعف جدواها في الزمن الحالي. فالطريقة التي تعلمنا بها لا يجب على أبنائنا التعلم بها ليصبحوا مثلنا. علينا استيعاب ثقافتهم، وتقبلها والنزول لها. على المعلم في مدرسته الاستماع لطلابه أكثر من إلقاء النصائح، وعلى الأب التخلي عن السلطة الأبوية التي لم يعد يتقبلها الطفل، وعلى خطيب المسجد تلطيف اللغة وملامسة الواقع وتجديد الخطاب. إن لم نفعل ذلك، فالشاب سيجد ضالته في وسيلة أخرى ولدى أشخاص آخرين سيكونون في متناول أيديهم.

إن قضية التربية قضية عامة ويمكن للجميع المساهمة في تطويرها، فتحية للمعلم الذي يقضي ساعات طوالا في اليوتيوب والسناب شات ليستوعب طلابه، وتحية للأم وللأب المستمع والمتقبل لاختلافات أبنائه وبناته، وتحية لصاحب منبر سخره في تجديد الخطاب الديني وملامسة القضايا الاجتماعية ليلامس الشريحة الأكبر في المجتمع. هؤلاء هم المؤثرون فعلا وهم من عرف بأن التربية رسالة متجددة وليست علما ذا أصول ثابتة.

قفلة:

كل الأزمات يسهل تجاوزها، إلا الأزمة التربوية، فإنها سبب للأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية والإعلامية وغيرها من المصائب.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

السعادة كما فهمتها

شاهدت فيلما قبل أكثر من 15 سنة، وشدني مشهد بسيط لا يزال راسخا في عقلي إلى هذه اللحظة. المشهد كان في فصل دراسي وتسأل المعلمة طلابها من المرحلة الابتدائية عن صفة يتمنى الطالب أن تكون فيه. فيجيب الطلاب بصفات كالجرأة، والشجاعة، والثقة بالنفس، والقدرة على جني المال، وغيرها من الإجابات المختلفة. ما رسخ هذا المشهد في ذاكرتي هو السؤال نفسه، فما زلت أسأل نفسي عن الصفة التي أتمنى أن تكون فيَّ. ومع مرور الوقت أتعمق أكثر في هذا السؤال إلى أن سألت نفسي عن الغاية الأخيرة من تملك أي صفة. نختلف في الصفات التي نتمناها جميعا إلا أني أعتقد أننا نشترك في نفس الغاية؛ ألا وهي السعادة في هذه الحياة الدنيا. وللوصول إلى السعادة الدنيوية، قرأت كثيرا، وشاهدت أكثر، وقضيت وقتا طويلا لأستنتج الوصفة السحرية للسعادة، ووصلت إلى أن السعادة تكمن في أربع قواعد:

القاعدة الأولى والأساسية محلها الجانب الروحي. فلا يمكن أن تتحقق السعادة إلا بإيمان راسخ عن الوجود وما بعد الوجود. فكل ما ضعف إيمان المرء وزاد شكه زاد شقاؤه وقلت سعادته. والإيمان هنا لا يتطلب أن يكون إيمانا صحيحا، المهم أن ما يعتنقه الإنسان من قناعات وعقيدة تكون راسخة وقوية. فالسعادة التي أتحدث عنها هي سعادة دنيوية يمكن لغير المسلم الوصول إليها.

صحيح أن طلب السعادة أمر قد يبدو فيه حب للذات وأنانية، إلا أنه لن يتحقق إلا بالتضحية والإيثار. فالقاعدة الثانية من قواعد السعادة مرتبطة بالعطاء ومساعدة الآخرين وإسعادهم. فقيل قديما «أسعد تسعد»، وهذه حقيقة وجدتها عند أمي التي تغمرها السعادة كلما أعطت وتشع في محياها الابتسامة كلما ساعدت. والعطاء هنا ليس مرتبطا بالعطاء المادي فقط، إنما بالعطاء المعنوي والروحي والجسدي. فكثير من الدراسات التي قرأت عنها تؤكد أنه لا المال ولا الصحة ولا المكانة الاجتماعية مربوطة بالسعادة، ولكن علاقاتك مع الآخرين ومقدار عطائك لمن حولك سبب من أسباب السعادة الرئيسة، إذن فالعلاقة بين السعادة والعطاء علاقة طردية.

أما القاعدة الثالثة فهي وجود هدف في الحياة، وهذا الهدف يجب ألا يكون هدفا شخصيا كتحقيق شهوات دنيوية من شهرة ومال ومكانة اجتماعية، ولكن الهدف يجب يكون في تنمية المجتمع والوطن أو البشرية بشكل عام، فالمال والشهرة لا يجب أن يكونا غايات بذاتها وإنما وسائل لتحقيق أهداف أسمى. خلال زيارته لمقر ناسا، سأل الرئيس الأمريكي جون كنيدي عامل النظافة عما يقوم به فأجابه العامل: «سيدي الرئيس، أنا أساهم في وصول الإنسان إلى القمر»، هذا الشعور بأهمية ما تقوم به للعالم وللمجتمع، وأن وجودك له هدف كبير كاف أن يحول حياتك من حياة عادية روتينية إلى حياة سعيدة هادفة.

والقاعدة الأخيرة والمهمة لتحقيق السعادة هي خلو القلب من الحقد والكراهية والحسد وأن يكون القلب مستوعبا الاختلافات التي هي من أسباب الوجود، فعلينا جميعا تقبلها والعيش معها لنظفر بالسعادة.

وإن القلب الذي يكره لن يذوق طعم السعادة ولن يهنأ بحياته، فالكره يؤذي الكاره ولا يؤثر على المكروه. ولهذا ندعو الله بسلامة القلب وطهارته فهي من أسباب السعادة الدنيوية ونجاة من النار في الآخرة. ألم يقل رب العالمين في كتابه عن عذاب يوم القيامة «يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم».

قفلة:

هي السعادة نطلبها، وربما نعرف طريقها، لكن هل بإمكاننا تهذيب أنفسنا لننال سعادتي الدنيا والآخرة؟

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

لا فسوق

ينتظر العالم الإسلامي كل عام هذه الأيام المباركة، ويتسابق فيها المسلمون للعبادات وخصوصاً الحجاج. ففي بضعة أيام يتجمع الملايين من المسلمين لأداء ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهو ركن يؤدى في بضعة أيام من عمر الإنسان وليس كغيره من العبادات المتكررة. لن نخوض في تفاصيل هذه الفريضة، فنحن دائما نغوص في صفة الحج وأحكامه وواجباته من كل عام وهي معروفة لمن بحث عنها. ولكن الهدف من كتابة هذا المقال هو دعوة للتأمل في قول الله تعالى «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج».

هذه الآية التي نقرؤها دائما مع كل مناسبة حج فيها دلالة على أن الله سبحانه وتعالى يؤكد على أهمية ربط تجنب العادات السيئة بالعبادة، فالحج مع ما فيه من روحانية وقداسة إلا أنه مدرسة للأخلاق وتهذيب للنفس، وهذا جانب مهم من ديننا الإسلامي العظيم نغفل عن تحقيقه. فلو راجعنا صفات الحج لوجدنا أنه يسهل على معظم المسلمين طواف الكعبة ودعاء الله والصلاة ورمي الجمرات وغيرها من المناسك التعبدية، ولكن ربما يصعب على الكثير التحلي بأخلاق أمرنا الله بها وعادات سيئة نتخلى عنها. فلا شك أن الملايين من الحجاج يؤدون الحج بلا أخطاء من ناحية الممارسات، لكن كم منهم أداها بشروطها الأخلاقية وفهم قيمها الراسخة؟

إن توحيد اللباس وتحديد أيام وصفة الحج لجميع المسلمين بغض النظر عن خلفياتهم فيه تأكيد على أننا من طين واحد وأننا نعود لأب واحد، فلا يجب علينا التكبر أو الإحساس بالأفضلية لأن الله ميزنا في أمر زائل من صحة أو مال أو مكانة اجتماعية.

في هذه البقعة المباركة تذكير بأن الله يرانا بتقوانا لا بأي شيء آخر من الأمور الدنيوية. وفي هذه البقعة الطاهرة، ينسى الإنسان الاختلافات العرقية والتوجهات السياسية والرغبات الدنيوية فيعبد الخالق بصفاء ذهن ونقاء نفس وطهارة قلب. وفي هذا المكان المقدس، يراجع المسلم نفسه ويحاسبها ثم يتوب إلى الله ليبدأ صفحة جديدة من حياته ينوي فيها تجنب الأخطاء قدر المستطاع وفعل الخير أينما وجده، ففي الحج فرصة بشرنا بها نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم فقال «من حج فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

في تفاصيل الحج أرى الإسلام الذي فهمته وأجدد علاقتي به كلما راجعته ويزداد إيماني به كلما تعمقت فيه. فهو الدين الذي فيه ممارسات تعبدية مشروطة بسلوكيات أخلاقية. وهو الدين الذي أمرنا فيه بعبادة ربنا والاهتمام بعلاقاتنا البشرية والإحسان لمحيطنا من حيوان ونبات. وهو الدين الذي ينبذ التفرقة والتطرف والغرور والتكبر والكراهية ويدعو للاعتدال والتواضع والمحبة وتقبل الآخر. نعم هذا هو الإسلام الذي يجب علينا إظهاره في الحج وفي كل مناسبة دينية.

قفلة:

ألم تكن خطبة الوداع للرسول صلى الله عليه وسلم مليئة بقيم أخلاقية سامية؟ ألم تكن موجهة لكل المسلمين من مهاجرين وأنصار وغيرهم من القبائل؟ ألم يؤكد عليهم باتباعها والتبليغ بها؟ وكل هذه الوصايا كانت في الحجة الوحيدة التي حجها صلى الله عليه وسلم.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

التاريخ و1115هـ

اطلعت على علم التاريخ لأول مرة في الصف الرابع الابتدائي عندما كانت مادة دراسية، وكان علما لا يستهويني فلقد أجبرت على معرفة أسماء أناس لم أشاهدهم ولا أعرف عنهم إلا ما يكتب في مقرر المادة. واستخدمت كل أنواع الحيل لحفظ تواريخ هجرية وميلادية أشغلت عقلي الصغير. ومما أذكره من الحيل هو حفظي لسنة ميلاد الداعية المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب فهو من مواليد عام 1115هـ وما أزال حافظا لهذا بسبب الحيلة التي علمني إياها معلمي باستخدام يدي اليسرى فأرفع الخنصر والبنصر والوسطى وأجعل السبابة ممسكة

بالإبهام فيظهر لي شكل مقارب لـ 1115. هكذا كانت مادة التاريخ بالنسبة لي في فترة المدارس، مادة جافة أحفظها لكي أحصل على درجة مميزة ثم أنسى معظمها إن لم يكن كل تفاصيلها بعد إجازة الصيف.

كبرت قليلا ودخلت مرحلة المراهقة، فرجعت لعلم التاريخ من خلال الرواة والدعاة و«الحكواتية» فسمعت قصص وأمجاد الخلافة الراشدة والدول الأموية والعباسية والإخشيدية وما تلاها. كنت أستمتع ببطولات وصولات وجولات أجدادنا والأوائل العظام وأفخر بهم. وبعد الانتهاء من سماع تلك القصص ظننت أني أدركت واستوعبت تاريخنا فأحببته وتعلقت بأمجاده، لم لا وقد عرفت أسماء كثير من الأبطال المؤثرين وسمعت عن خصالهم وحفظت نسبهم وأصلهم، أليس هذا كافيا للادعاء بمعرفتي بالتاريخ؟

تجاوزت مرحلة المراهقة ودخلت مرحلة الشباب والحماس، فزاد اهتمامي بحاضري أكثر من لهفي بالتاريخ، فحاضري هو ما سيحفر لي اسما بطوليا في التاريخ يفتخر به أبنائي. فأجدني تارة مهتما بالقضايا الاجتماعية وقيم المجتمع، وأحاول أن أستوعب الخلل وطرق إصلاحه، ثم ألتفت إلى الأمور الاقتصادية، ومحاولة معرفة الأسباب التي تجعلنا أمة متبوعة لا تابعة، وتارة أحاول أن أفهم علاقاتنا الدولية والإقليمية مع الآخرين وكيف أن الخلافات السياسية والإعلامية التي يستخدم فيها الغطاء الديني أشغلتنا عن قضايانا التنموية. أغوص في كل تلك

القضايا بمعزل عن التاريخ، فالتاريخ بالنسبة لي كله أمجاد وبطولات ولا علاقة له بمستقبلنا.

وفي الآونة الأخيرة، وبعد تجاوز مرحلة الحماس المفرط والعاطفة الجياشة، أدركت أن كل مشاكلنا ممكن تجاوزها وحلها بعلم التاريخ. فلقد أيقنت أن دراستنا للتاريخ دراسة بعيدة عن أهدافه الحقيقية، فنحن فعليا نعرف التاريخ ولكن لا ندرسه. نعرف التاريخ لنتباهى به ونحفز أنفسنا على استعادة الأمجاد لا للاستفادة منه والاتعاظ من دروسه.

ألم يقل الله سبحانه وتعالى في سورة يوسف (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)؟ ففي مراجعتنا للتاريخ، لا نتطرق للخلافات وأسباب السقوط فنقول دائما «إنهم قوم اجتهدوا وأفضوا إلى ما قدموا» ولا نستعرضها ونحللها ظانين أننا نتفادى المشكلة بدلا من الاستفادة منها والتأكد من عدم تكرارها. فكل ما تطرقنا لفتنة قديمة أو حرب سابقة نسمع من يقول ناصحا «تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا»، معتقدين أنها سبب للتلوث لا دعوة إلى التحليل والتفسير لجذور مشاكل حالية. إن أحوج ما نحتاجه الآن هو إعادة النظر في دراسة التاريخ، فالدراسة الحقيقية تعني التحليل العميق للماضي، وفهم دقيق لأسباب النجاح والخسارة في كل المجالات.

إننا دائما ما نحمل الأعداء كل مشاكلنا وإخفاقاتنا فهم يستمرون في التآمر علينا، وهذا صحيح، ولكن كل ما يقوم به الأعداء هو دراسة تاريخنا دراسة عميقة وبناء الخطط مستغلين معرفتهم بمكامن ضعفنا وتدمير مصادر قوتنا. نعم فالغرب يدرس التاريخ للاستفادة منه في كل مجال، فالدول لكي تتطور وتتسيد تدرس تاريخ الحضارات الأخرى وتحلل نهوض وسقوط الأمم عبر التاريخ، وكذلك الشركات التجارية تقوم بدراسة تاريخ المنافسين والناجحين والخاسرين، وحتى الجامعات والمدارس فهي تدرس التاريخ الاجتماعي والتربوي لتتمكن من التطوير المستمر. وأكبر شاهد على ذلك هي الميزانيات الكبرى التي يرصدها الغرب لمراكز الدراسة والبحوث التي تعتمد دراساتها بشكل كبير على علم التاريخ.

قفلة:

مقولة «لا تعد اختراع العجلة» لا تنطبق فقط على الصناعة، بل تنطبق على كل قضايانا، وعدم إعادة اختراع العجلة يتطلب دراسة للتاريخ لا معرفته فقط..

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة