مجاني.. ولكنه ثمين

عملت في دولة غربية لمدة 3 سنوات وأثار اهتمامي الاختلافات العملية والاجتماعية الكبيرة عن وطننا العربي، فالغربيون بشكل عام لا يمتازون عنا بقدرات ذهنية أو جسمانية ولكن جل الاختلاف يكمن في الاهتمامات والأولويات.

لن أتطرق لتفاصيل هذه الاختلافات، ولكن شدني موضوع جوهري يختلفون فيه عنا. إن من أولويات المجتمع الغربي الذي عايشته التطوع، فكل من عملت معهم يخصصون على الأقل 100 ساعة في السنة للتطوع. وهذا التطوع مدعوم ومشجع من قبل المجتمع والشركات والإعلام والتعليم، فلا يهم فيم تتطوع وأي قضية تخدم، المهم أن تخصص وقتا للتطوع. ومن وسائل التشجيع عندهم أن الجامعات بشكل عام تفضل قبول المتقدم المتطوع على غيره، وفي بعض الشركات – ومنها الشركة التي كنت أعمل فيها – يوجد بند في تقييم أداء الموظف مرتبط بالأداء التطوعي كيفا وكما. إنها ثقافة زرعت لديهم فكان التطور والانضباط إحدى نتائجها.

إن من مميزات العمل التطوعي أنه يهذب النفس ويزكيها من الأنانية، فالتطوع عطاء بلا مردود مادي، بل هو عطاء لمجرد العطاء. وفيه يتجرد الإنسان من واقعه وعمله ومحيطه المريح، فيلتفت إلى عالم لا يعرفه، عالم يسمع عنه ولم يعشه فيتطوع ليدرك قيمة ما من الله به.

والتطوع كذلك يوسع المدارك ويصقل المهارات ويفتح الآفاق ويبني العلاقات الجديدة، وبه يخدم المتطوع وطنه ويساهم في تغيير هذا العالم ليصبح أجمل.

ربما لا أستطيع سرد كل مميزات التطوع فلست ممن كرس حياته أو جزءا منها لهذا العمل النبيل، ولكن ذكرت بعض ما سمعت وعرفت ممن أنعم الله عليه بمزاولة التطوع فأصبح جزءا من حياته. ولعلي هنا أتذكر ذاك المعلم الذي طلبت منه منذ سنة أن نعمل على مشروع معين، وذكر لي أنه يستطيع العمل معي في أي وقت إلا يوم الأحد من الساعة الثالثة عصرا حتى صلاة المغرب، فهو وقت مخصص للتطوع. والتطوع هنا ليس المقصود به الدعوة إلى الله، فهذا ولله الحمد سخر الله له جنودا من هذا البلد يقومون به على أكمل وجه، ولكن المقصود هو العمل الميداني، فالرجل يستغل هذا الوقت ليدرس مجموعة من الأيتام مهارات الحياة ويرافقهم في هذه الساعات الثلاث. ويقول إنه لم يشعر بالراحة والنشاط المستمر إلا بعد تخصيص هذا الوقت للتطوع.

ومن المواقف الجميلة عن التطوع في بلادي ما قامت به مجموعة من المتطوعين بجهود شخصية بإنشاء حملة باسم «حملة تشجير الرياض» في تويتر، تفاعل معها عشرات الآلاف وتقدم 3 آلاف متطوع لتحقيق هذه الحملة. وهذا يؤكد الرغبة والقدرة الموجودتين لدى مجتمعنا في التطوع، إلا أنه يحتاج لتنظيم يخدمهم. ولعل جامعاتنا تساعدنا في ذلك، فأذكر أني اطلعت على أحد مشاريع التخرج في جامعة الملك سعود قبل بضع سنوات عن بوابة الكترونية للتطوع، من خلال البوابة يطرح الراغب في التطوع أوقات فراغه والمهارات التي يتقنها والمدينة التي يسكنها، بحيث تقوم المؤسسة أو المنظمة المحتاجة إلى التطوع بالتواصل مع الراغبين. ليت هذه المشاريع وغيرها في جامعاتنا ترى النور ولا تكون حبيسة الجامعة، فربما يكون هذا المشروع بذرة لزراعة ثقافة التطوع في مجتمعنا المعطاء.

قفلة:

قال لي أحد المتطوعين «التطوع عمل مجاني، ليس لأنه عديم القيمة، بل لأنه لا يقدر بثمن».

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

ريتويت.. لايك.. شير.. أي شيء!

عزيزي القارئ، قبل البدء في المقال، أود أن أعتذر عن السلبية والمبالغة في الطرح، والتي أعتقد أنها ضرورية لإيضاح الفكرة التي أريد إيصالها. فالتجربة التي أعيشها حاليا جعلتني أتساءل هل ما أشعر به شاذ؟ أم إن هناك من يشاركني هذا الشعور؟ أتحدث عن شعور بدأ يتشكل مع بداية ثورة التواصل الاجتماعي التي قسمت حياتي إلى حياتين؛ حياة حقيقية وحياة افتراضية.

نبدأ بتويتر، فمنذ دخولي هذه المنصة التي تمتاز بالإيجاز وإتاحة المساحة للجميع لإبداء آرائهم وأنا مندهش من تصرفات الكثير من المغردين. فجمهور منهم يدعون أنهم حماة الدين وحراس الفضيلة يتهمون كل رأي مخالف لآرائهم بالتغريب والفسوق والانحلال وغيرها من الألقاب الإقصائية. وجمهور آخر نقيض للأول تماما يدعون أنهم مع التعددية وحرية الآراء، ولكن إذا كان مجال النقاش في أمور الدين تراهم يضيقون ذرعا ويصفونهم بالتطرف والإرهاب وبأنهم عديمو الوطنية لا لشيء إلا لأنهم يطرحون رأيا مخالفا. وجمهور آخر يتخفى بأسماء مستعارة يتفنن في الردود بأشنع الألفاظ وأقبح الصفات وأدنى العبارات لكل شخصية معروفة. هذا كله يحدث في هذه الحياة الافتراضية، ولكن حين ألتفت إلى حياتي الحقيقية لا أرى هؤلاء الأشخاص، ولم يحدث أن سمعت في مجالسنا من يشكك في دين الآخر ولا من يشكك في وطنيته. فهل هذا يعني أن التطرف اليميني واليساري واقع؟ أم خيال؟ وهل البذاءة من عادتنا؟ أم إن تويتر لا يعتبر مرآة للواقع؟

ننتقل إلى الانستغرام والسناب تشات، لنشاهد صور تجمع الأصدقاء بابتسامات عريضة، وتعليقات على هذه الصور تأكد مدى الترابط والسعادة التي تجمعهم. فتغريني هذه الصور لأذهب إلى مجالسهم، ولكن للأسف حين أذهب أرى أجسادا بلا أرواح، فلا ابتسامة مرسومة، ولا أحاديث تسمع، ولا موضوع يطرح. فقط هي الأجساد في الكراسي مشغولة بأجهزة صغيرة محمولة بين أيديهم.

أجساد فضلت التوغل في العالم الافتراضي على العيش في الحياة الحقيقية. وفي نفس هذا العالم الافتراضي نرى صورا أخرى لمطاعم مميزة ووجبات لذيذة، فتشتهيها لتذهب إلى المحل المأخوذ منه الصور لترى أناسا بجوالاتهم يصورون الأطعمة بأكثر من زاويا ثم يأكلون لقمة، أو يرتشفون رشفة، ليترك أكثره لسلة المهملات. فأي إدمان نعيش؟ هل فضلنا حياتنا الافتراضية على الحقيقية؟

ننتقل إلى الواتس اب، هذه الوسيلة التي تجمعنا مع أهلنا وزملائنا وأصدقائنا. الواتس اب الذي سهل علينا طرق التواصل فأصبحنا نهنئ الأحباب برسالة منسوخة، ونعزي الغالين بنص لم نقرأه ولا يقرؤه المتلقي. أصبحنا لا نحرص على اللقاءات ولا المكالمات، فالرسالة تكفي. وفي هذه الوسيلة، نرسل حكما ونصائح للآخرين لتشعرنا أننا نتبعها بمجرد إرسالها. وفي هذه الوسيلة، نعيد إرسال الأخبار الملفقة، ووصفات العلاج المدمرة، والفتاوى المكذوبة دون تحر للدقة، لأننا استقبلناها من خلال «الواتس اب» وهذا بالنسبة لنا دليل كاف على موثوقية المعلومة.

نعم لهذه الوسائل مميزات وإيجابيات فهي قربت البعيد ووسعت المدارك وزادتنا ثقافة، ولكنها أخذت حيزا كبيرا من وقتنا، فطغت على حياتنا الحقيقية. فهل نحن نستفيد من إيجابيات هذه الوسائل أكثر؟ أم إن سلبياتها لها الأثر الأكبر في حياتنا؟ وهل تصبح شخصياتنا في هذه الوسائل واقعية؟ أم إن شخصياتنا مزيفة وهشة؟

قفلة:

حين يزورنا ضيف عنده مئات الآلاف من المتابعين، هل يستقبل كاستقبال شخص لا يملك حسابا في هذه الوسائل؟ وهل سعادة بعضنا أصبحت مربوطة بعدد «اللايكات» في الصور التي نشاركها في الانستغرام أكثر من السعادة الناتجة من استرجاع الذكرى المربوطة بهذه الصور؟ وهل أصبح عدد الريتويت هدفا أكثر من قول ما يمليه ضميرنا في تويتر؟

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

الإجازة ليست طويلة!

يشتكي كثير من أولياء أمور الطلاب من فراغ أوقات أبنائنا وبناتنا في هذا الصيف، فنحن نشهد حاليا أطول إجازة مدرسية مرت منذ 25 سنة. ويرى كثير من التربويين أن هذه المدة الطويلة من توقف مدارسنا من أسباب ضعف مخرجات التعليم، فالمملكة تقف عند الحد الأدنى لأيام الدراسة بالمقارنة مع بقية دول العالم. ولذلك نكثر من لوم وانتقاد وزارة التعليم كونها المسؤولة عن هذه المخرجات التي نسعى دوما في إصلاحها، فتارة نرى إصلاح التعليم برفع كفاءة المعلمين، وتارة بتطوير المناهج، وتارة أخرى في زيادة مدة الدراسة وغيرها مما يساهم في رفع محصلة الطالب تعليميا وتربويا. ولكن قبل التوصل إلى إصلاحات ممكنة، لا بد من البحث عن أساس المشكلة، فهل هي مشكلة تملك وزارة التعليم سبل إصلاحها؟ وهل فعلا من مشكلاتنا طول الإجازة؟

إن النظام المدرسي أنشئ في القرن الـ19 الميلادي، ومنذ ذلك الوقت وهو يمثل دورا أساسيا في تشكيل شخصية الأطفال، ومع مرور الوقت تطورت المدرسة بشكل كبير، إلا أن دورها أصبح أقل من السابق. فحين نسمع ونقرأ سير من سبقونا نرى أن المدرسة تكاد تكون المصدر الأوحد للمعلومة وتلقي العلم وهي من تشكل ثقافة المجتمع الصغير آنذاك. أما الآن، فالطالب لا ينتمي لذلك المجتمع الصغير المعتمد على المدرسة، بل أصبح عضوا في العالم الواسع الذي سهل فيه تلقي المعلومات والأخبار من خلال ضغطة زر في منزله. أصبحنا نعيش في زمن يساهم فيه الجميع بتشكيل وتأهيل هذا الطفل؛ أصبح الإعلام منهلا تربويا مؤثرا، والترفيه مدخلا جديدا لثقافة الأطفال، ووسائل التواصل الاجتماعي تساهم بدورها في أخلاق الطفل وغيرها من مؤثرات فضاء هذا العالم الفسيح. هذا كله ليس تقليلا من دور المدرسة، ولكن لندرك أنها ليست المسؤولة الوحيدة في تربية ذلك الطفل. فكل من يعول على المدرسة ويتنصل من المسؤولية في تعليم وتربية هذا النشء نقول له: أعد النظر فالكل مسؤول.

إن طالت الإجازة المدرسية الصيفية فهذا لا يعني أن التعليم متوقف، فالطالب يتعلم من الأجهزة التي بين يديه أكثر مما يتعلمه من المدارس، ويتأثر من العالم الافتراضي أكثر من تأثير أهله وجميع المحيطين به، ويشاهد في سفره ما لا يستوعبه في المدارس، ويتعلم من خلال الممارسة ما لا يدركه في المناهج المدرسية، ويقرأ محادثات التواصل الاجتماعي أكثر من قراءته للكتب. نعم نحن في إجازة مدرسية طويلة ولكننا لسنا في إجازة تعليمية أبدا، ولذلك أصبح دور الأسرة حاليا أكثر أهمية في مواجهة هذه الكمية الهائلة من المؤثرات التربوية والتعليمية فطوبى لمن أدرك ذلك واستثمره فيما ينفع أبناءه.

قفلة:

إن رؤية المملكة ورؤية أي أمة لن تتحقق إلا بالإنسان المؤهل، ولا تأهيل إلا بتعليم يتحمل مسؤوليته المجتمع بأكمله؛ بإعلامه، بوسائل ترفيهه، بمؤسساته الأهلية، وبجميع مؤسساته الحكومية لا وزارة واحدة فقط. فالتعليم وسيلتنا لأية غاية، فلذلك يجب أن يكون هو همنا وهاجسنا.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

لأنهما والداك يا ابن آدم

سألت نفسي يوما سؤالا، والآن أوجهه للقراء: لماذا نبر والدينا؟ سؤال قد يظن القارئ أنه بدهي فيجيب أحدهم أنه امتثال لأمر الله القائل «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا». وقد يقول آخر إن بر الوالدين من أسباب السعادة والنجاح، فيندر أن تجد ناجحا إلا بارا بوالديه حتى وإن لم يكن مسلما. الإجابتان صحيحتان، ولكنهما بالنسبة لي ليستا كافيتين وتحتاجان إلى إيضاح أكبر.

نعم نحن نبر والدينا اتباعا للأمر الرباني، ونتقرب له سبحانه بذلك، ولكني أرى أن لله حكمة في هذا الأمر تحديدا، وهذا ما حاولت أن أبحث عنه، فوصلت إلى أن الله وصانا بذلك لأن الإحسان إليهما ما هو إلا دين نرده لهما، فالمشقة والمعاناة في الحمل والرضاعة والسهر والنفقة والتربية وغيرها يستحق الوالدان معها البر والشكر، وأن يقترن الإحسان بهما بعبادة الله سبحانه، وهذا ما أدركته من قول الله تعالى «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير»، فحتى شكرهما اقترن بشكر الله جل وعلا، فمهما أحسنا إليهما وبررنا بهما لا يمكنا رد دينهما العظيم. ولعلنا نذكر الأثر المنسوب للصحابي الجليل عبدالله بن عمر عندما سأله رجل يحمل أمه ويحسن إليها بأن لو كان أوفاها حقها، فأجابه ابن عمر: ولا بطلقة من طلقاتها. وهذا يؤكد بأن فضل الوالدين علينا كبير، فالإحسان إليهما مهما بلغ لن يوفيهما حقهما، وبهذا أدركت لماذا أوصانا الله بهما.

أما من يقول إننا نبرهما بحثا عن السعادة والنجاح، فأقول له: نعم قد يكون ذلك نتيجة للبر، ولكنه ليس سببا له، فبر هذا سببه ما هو إلا بر نابع من أنانية. البر يجب أن يكون منبعه حبنا لهما، لا حبا لأنفسنا وطمعا في مستقبلنا، فحبهما يجب أن يكون حبا نقيا صافيا خالصا، فعلاقتنا بهما من أسمى وأقدس العلاقات الوجودية، ولا يجب أن تتعكر هذه العلاقة بالمصالح. إن حبهما فطرة، فالطفل يحب أبويه غير مدرك بأن ذلك مربوط بسعادة ولا سبب في نجاح، إنما يحبهما لأنهما والداه فقط. بل حتى الحيوانات، خلقها الله بنفس هذه الفطرة. لذلك، فأي بر لسبب غير الحب الخالص أعتقد أنه بر مزيف، بر غيرت الحياة الدنيا طبيعته ولوثت نقاوته.

ختاما، لا نحتاج أن نغري من نوصي ببر الوالدين بجنة عرضها السماوات والأرض، ولا بنجاح وسعادة وتفوق في المستقبل. فيكفينا أن برهما سبب في إدخال السعادة في قلب من تعب لنرتاح، وإرضاء لمن أحبنا رغم عيوبنا وأخطائنا أكثر من حبه لنفسه، ووفاء لمن صدقنا القول دائما فلم يجاملنا ولم يتزلف إلينا يوما. نقول باختصار: نبرهما لأنهما والدانا وكفى.

قفلة:

لقلة حيلتي أرى أن أفضل ما يمكن أن أختم به هذا المقال هو هذا الدعاء لكل أب وأم

اللهم كما أحسنوا إلينا فأحسن إليهم، وكما أكرمونا فأكرمهم، وكما رحمونا فارحمهم، وكما أنفقوا علينا فأنفق عليهم، وكما قدمونا على أنفسهم فقدمهم. اللهم ارفع درجاتهم ويسر أمورهم واغفر زلاتهم واختم بالصالحات أعمالهم

اللهم من كان منهم مريضا فاشفه، ومن كان منهم مبتلى فعافه، ومن كان منهم محتاجا فأعنه، ومن كان منهم فقيرا فأغنه، ومن كان منهم ميتا فانزل عليه رحمتك، ومن كان منهم حيا فأمدد في عمره على طاعتك. اللهم وارزقنا رضاهم ونعوذ بك اللهم من عقوقهم. إلهنا لا يكافئهم إلا أنت ولا يجازيهم إلا أنت فاللهم أجزلهم يا كريم يا رحمن

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

ألا ليت المشيب يدوم

يطمح كثير من الشباب إلى أن تعطى لهم الفرصة والمجال لصناعة القرار وتولي زمام الأمور لما لديهم من طاقات كبيرة ودراية حديثة في مجالات شتى. فهذا عصر متسارع وكثير المتغيرات يتطلب شبابا يفهمون هذا التسارع، وقادرين على التأقلم معه، ويتميزون بالنشاط والهمة العالية، وهذا ما يفقده كثير من أصحاب القرار والتنفيذيين من الكبار. كان هذا إيماني إلى أن راجعت نفسي وسألتها: هل فعلا نستطيع قيادة مستقبلنا بدلا ممن يتولون أمورنا من الكبار؟ إذا كان الجواب لا، فماذا ينقصنا ويميزهم؟

إن من نعم الله علي أني وهبت أبا اختلف في طريقة تربيته لأبنائه فلم يكن الأب المتسلط، بل على العكس تماما فقد كان يجالسنا أنا وإخوتي كأصدقاء، ويسمع لنا ويسمح لنا بالأخذ والرد على آرائه. ولم يكتف -رحمه الله- بالجلوس معنا لوحده من جيله، بل كان يحرص على مرافقتنا له في مجالسه وندواته وحواراته.
ومما كان يصر عليه هو حضورنا للمجلس الأسبوعي في منزلنا «جلسة السبتية» والذي يحضره علماء وأدباء وأساتذة الجامعات وتربويون ومثقفون من جميع أنحاء العالم العربي. بدأت السبتية قبل أكثر من اثنين وعشرين عاما، ورغم أن المواضيع لم تكن ثابتة، فمنها التربوي والأدبي والسياسي وغيرها من أحداث الساعة، إلا أن الثوابت في تلك الجلسات كانت العمق في التحاليل، والرقي في أسلوب الحوار، وتقبل الآراء ووجهات النظر المختلفة بهدوء. ولأني بدأت حضور هذه الجلسات وأنا في مرحلة الصبا، كانت بالنسبة لي صعبة الفهم ومملة فكنت أحضرها مكرها وملبيا رغبة والدي، ولكن ما إن كبرت حتى عرفت قيمتها فأدركت أنها منهج تعليمي لم أحصل عليه في الجامعة فلزمتها راغبا لها مشتاقا لروادها مستمتعا بمواضيعها.

ذكرت هذه النبذة عن جلسة السبتية لأنها سبب في إدراكي لجواب سؤالي في مقدمة هذه المقالة. فمن بعد مجالسة الكبار في السبتية وغيرها، أيقنت أنهم يملكون خبرات طويلة وحكمة عميقة ولديهم القدرة على تغليب العقل على العاطفة فتراهم يتروون في إصدار آرائهم، ويتحكمون في ردود أفعالهم، وهذا ما لا يمكنني تعلمه إلا بخوض ما خاضوه من التجارب. لذلك أستطيع أن أقول إنه مهما كانت طموحات الشباب عالية وهمتهم قوية إلا أن للكبار دورا لا يمكننا الاستغناء عنه. فالخبرة والحكمة والاتزان أمور ضرورية لقيادة ورسم مستقبلنا، ويندر أن نجدها في الشباب المندفع.

ومن هذا، أيقنت يقينا لا شك فيه أن التعاون والمشاركة بين الأجيال سيؤتي ثمارا أكثر ونتائج ملموسة أعلى وأخطاء أقل. وتأكيدا لهذه النتيجة الشخصية، لو قرأنا تاريخ أي أمة متقدمة وعظيمة نرى أن توزيع الأدوار بين الأجيال من أهم ركائز ذلك التقدم. فحفظ الله شيوخنا، وبارك لنا في شبابنا، وسدد الله خطى من تولى أمرنا.

قفلة:

يقول العليم القدير في كتابه: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ»، وهذا يؤكد أن العلم يتزايد مع تقدم العمر حتى يصل الإنسان إلى مرحلة الهرم حيث لا يعلم بعد علم شيئا. فهل يعقل أن نبكر مرحلة الهرم ونستغني عمن زاد علمه مع عمره؟!

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

النفاق التطوعي

على مدى عقود من الزمن مرت مملكتنا الغالية بمخاض من التجارب والتطورات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من تقدم ملحوظ في العديد من المجالات. كل ذلك تم في فترة وجيزة نسبيا، ففي عصر أجدادنا كانت البلاد صحراء قاحلة وأهلها بدو رحل تغلب عليهم الأمية.

إن الفضل بعد الله لهذه النجاحات لا يعود لشخص بذاته بقدر ما هو مجهود لسلسلة من رجال ونساء تعاقبوا وخدموا دينهم ووطنهم واجتهدوا فطوروا، مواطنين كانوا أم مقيمين، فراية التطوير تتنقل من يد إلى أخرى والعمل الجماعي المتكامل هو أساس هذه التنمية وسرها.

رغم عظم النعم التي حبى الله بها هذه البلاد وأهلها إلا أنه يوجد من يقلل منها وينتقص ممن يعمل ويشكك في أهليته ونواياه ويسلط الضوء على القصور القليل متجاهلا النجاحات الكبيرة، فهذا الساخط كالذي ينظر إلى نهر جميل فيقول ما أسوأ طين قاع هذا النهر! هؤلاء ليسوا محور حديثي، بل الحديث عن نقيضهم تماما، ولكنهم يشتركون في نفس الأثر السلبي على المجتمع.

هنا، أتحدث عمن يغالي في وصف نجاحاتنا فيعمينا عن القصور ويعظم بالمديح رموز الحاضر فينسف من سبقهم أو من يعمل معهم. أتحدث عمن لو اطلعنا على مقالاتهم أو قصائدهم لاشمأزت منها قلوبنا ولاقشعرت منها أبداننا من مبالغات وتجاوزات ومغالطات.

إن المبالغة في المدح والمغالاة في الثناء تحلان محل الذم، بل إنهما أسوأ في كثير من الأحيان، فلا الممدوح سعيد بما يقرأ ولا المادح بكاسب احترام القارئ. ومما يزيد الطين بلة أنه لم يطلب منهم كتابة تلك المقالات ولا هم حائزون مكافآت جراء ذلك، وهذا مما يجعلنا نستنكر هذا النفاق التطوعي، إن صحت التسمية.

إن المنافقين المتطوعين آفة على المجتمع وعثرة في طريق التنمية، فهم سبب في تثبيط الهمم ومدعاة لفتن الممدوح وبكل تأكيد فهم يستهزئون بالمتلقي. أقول لهم: كم نهينا عن السلبية والسخط! فنبينا عليه الصلاة والسلام وصى صحابته والمؤمنين من بعدهم بحث التراب في وجوه المادحين، فليتنا نعي خطورة المبالغة في المدح وننبذه من مجتمعنا حتى لو قل. ولنعرف أن مما يساهم في التطور هو الإنصاف في الثناء والنقد. أكرر الإنصاف «فلا إفراط ولا تفريط».

قفلة:

«من لا يشكر الناس، لا يشكر الله» هذه حقيقة تجعلني أسعى دوما لشكر كل من يستحق الشكر ومدح من يستحق بدون مبالغة، فللناس حدود في الثناء أما خالقهم سبحانه فلا مبالغة في مدحه ولا حدود للثناء عليه ولا كفاية من شكره.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

نجوم ريادة أعمال حقيقيون

مفردة ريادة الأعمال لدى الشباب السعودي أصبحت دارجة ولدى الكثير منهم أصبحت غاية. فإن تكن غاية فهذا بلا شك أمر إيجابي وأتمنى أن يحققوا غاياتهم ليصبح لدينا شباب يخلقون الوظائف لا يشغلونها فقط. أنا هنا لست بصدد التحدث عن هذه المفردة فلست مختصا بذلك، ولكني سأتحدث عنها كظاهرة اجتماعية. الذي شجعني لكتابة هذا المقال، هو مشاهدتي للقاء مع الريادي فيصل الخميسي في برنامج من الصفر مع المقدم المميز مفيد النويصر.

قصة كفاح فيصل ملهمة وتستحق أن تنشر، والعجيب فيها أنني كنت أتابع فيصل في تويتر لسنوات، ولكن كغيري لم أكن أعرف عنه إلا القليل، فلم يكن يتحدث عن قصص نجاحه بل كل ما يكتبه في تويتر آراء حول مواضيع عامة. وهذا يذكرني بقصص مشابهة في وطني لم ينشغل أبطالها بالظهور ولكن كفيصل ركزوا على النجاح فهو غايتهم الأهم لا الظهور الإعلامي. ومن القصص المشابهة، قصة رياديي الأعمال الثلاثة رائد وعبدالله وأحمد، وهي قصة أعتقد أني قريب من أحداثها ومتابع لتطوراتها، ولكن يجهلها الغالبية.

بعد تخرجهم في الجامعة، عمل الثلاثة في قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات كموظفين لمدة تزيد على 7 أعوام، وأثناء عملهم كموظفين، أنشأ اثنان منهم منتجا في ملحق بيت، أما الثالث فآمن بفكرتهما ليترك عمله وينضم لهما ليتحول المنتج إلى شركة أسست عام 2008 توظف عشرات السعوديين بمبيعات تفوق عشرات الملايين.

أتحدث عن شباب آمنوا بأن لديهم القدرة والكفاءة لا أن ينافسوا في السوق المحلي فقط، بل هدفهم تقديم حلول تقنية للعالم فحققوا حلمهم بمنافسة كبرى الشركات العالمية التي تقدر بمليارات الدولارات. هذه الشركة السعودية طلبت ودها شركات استثمارية عالمية، ولكن طموحهم يفوق ما عرض عليهم. عرفت بعض من المؤسسين وشاهدت التعب والجهد المبذول في البدايات، ولاحظت التطور الملحوظ والنجاحات التي واكبت هذه الشركة. وسعيد جدا بأن هذا النجاح الهائل لشركة كل موظفيها من الشباب السعودي.

ذكرت هذه القصة للتوضيح أن هناك شبابا منجزا وملهما، وعلى الإعلام أن يبحث عنهم ويستخرج قصصهم وينشرها للاستفادة منها، وإلهام الآخرين بها، وألا ينتظر من رائد الأعمال الإعلان عن نفسه، فرائد الأعمال الحقيقي هدفه النجاح لا الشهرة. أقول ذلك لأنه وللأسف استغل البعض ظاهرة ريادة الأعمال ليبحث عن نجاحات ولو كانت وهمية ليقدم نفسه للناس كقصة نجاح، ثم يساعدهم الإعلام ويعرضهم كقصص ملهمة ركيكة لدرجة أن «الناجحين» أصبحوا أكثر شهرة من منتجاتهم وشركاتهم. وما زال يتكرر ظهور هؤلاء «الناجحين» إلى أن أصبحوا من نجوم الإعلام الجديد بدلا من نجوم ريادة الأعمال.

قفلة:

أقول لمفيد النويصر شكرا لتقديمك نماذج ملهمة في رمضان، وأقول لفيصل الخميسي كثر الله من أمثالك، وأقول لمن تابع «من الصفر» لا يهم من أين يبدأ المرء، بقدر ما يهم إلى أين يصل.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

الحرب مبدؤها كلام

جرت العادة أن أعطي رأيي في كل نقاش يدور في المجالس، وبغض النظر إن عرفت القليل أم الكثير عن الموضوع المطروح، فكلمة «لا أعرف» ليست في قاموسي، لأن اعتقادي أنه لا ملامة علي ما دام أنها وجهة نظر شخصية، وفي الأول والأخير الرأي لا يفرض بل يؤخذ ويترك. ومع توسع قنوات الاتصال وسهولة طرح الآراء فيها، استدركت أن الموضوع أصبح خطأ، بل خطرا جسيما.

في السابق، كنا نسمع تحاليل القضايا السياسية من باحث سياسي متمكن، والدروس والخطب الدينية من طالب علم متبحر، وكذلك في الأمور الاقتصادية والاجتماعية وحتى الصحية. أما الآن فنرى متسيدي الأطروحات والآراء في كل تلك القضايا هم أشخاص ثابتون لا يتغيرون بتغير الموضوع. فلا تخصص في الطرح، وبكل تأكيد لا علم كافيا وخلفية قوية متعلقة بكل تلك المواضيع.

أصبح ذلك خطرا لأنه مع سهولة طرح الرأي في الإعلام الجديد، تحول النقاش من وجهة نظر فردية في مجلس صغير إلى نشر فكرة أو رأي يقرؤه أو يشاهده الآلاف إن لم يكن الملايين من العامة.

هذه الآراء أصبحت لدى الكثير منا مصدرا للمعلومة، وأصبحت سببا في حراك الفكر وتحويلها إلى قضية رأي عام. لذلك علينا الحذر فيما نقول ولمن نقول ومتى نقول. الكلمة لم تصبح عابرة كما اعتدنا، بل أصبحت موثقة ومؤثرة، فلنتق الله فيما نقول فهو من أمرنا في كتابه المبين (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)، وحذرنا بقوله (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) صدق الله العظيم.

إننا في هذا الوقت وفي أكثر من أي وقت مضى نحتاج أن نراجع أنفسنا قبل طرح أي رأي أو وجهة نظر في أي موضوع، فعلينا أن نتأكد من تبعات كلامنا، فإن كان خيرا فلا مانع من طرحه، أما إن كان غير ذلك فالصمت هو القرار الأحكم. ألم يوصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)؟ هذا قول أقوله وأنا مقتنع أنه ليس مصادرة للآراء بقدر ما هو نهج سأسعى أن انتهجه في حياتي، فلقد قرأت في الأثر قول أدركت أهميته متأخرا ألا وهو (ما ندمت على سكوتي مرة، ولكنني ندمت على الكلام مرارا).

قفلة:

أذكر تغريدة لوالدي رحمه الله خطها بيده، وما زلت محتفظا بها، أرى أنها مناسبة لقفلة هذا المقال. نص التغريدة:

الوطن مسكن وحماية، علينا أن نحافظ عليه ونذود عن كرامته، ولا نثير الفتن بين أهله، الحريق أوله شرارة فإن النار بالعودين تذكى، وإن الحرب أولها كلام

محمد الرشيد

نشرت المقالة في صحيفة مكة

لن أقول آمين

أحمد الله الذي بلغنا رمضان، وأسأله سبحانه أن يعيننا على طاعته وحسن عبادته. إن لرمضان روحانية وشعورا لا يمكن الإحساس بها في غيره.

ومن أهم أسباب هذه الروحانية هو الدعاء ومناجاة الخالق سبحانه وتعالى، فالدعاء غذاء للروح وعلاج للهم وشعلة للأمل، فله الحمد والفضل على هذه النعمة العظيمة.

مذ كنت صغيرا وأنا معتاد على قائمة من الأدعية حفظتها بعدما سمعتها من مشايخنا من دون استيعابها.

أذكر قصة كانت سببا في استدراكي لكيفية الطلب من الله سبحانه وتعالى، وكان ذلك في أحد مساجد الرياض حيث كنت أصلي التراويح مع الجماعة. وفي دعاء القنوت، دعا الإمام -ككثير من الأئمة «اللهم عليك باليهود والنصارى، اللهم يتم أطفالهم، ورمل نساءهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك» إلى آخر الدعاء. وفي هذه الجزئية من الدعاء لم أقل «آمين» لعدم اقتناعي بالأسلوب ولا بالمطلوب.

ذهبت بعد الصلاة إلى الإمام للتحدث معه، فأحببت أن أبين له وجهة نظري فسألته –معتذرا عن التطفل «يا شيخ، هل يعجز الله هداية اليهود والنصارى ولا يعجزه ترميل نسائهم وتيتيم أطفالهم؟ ألا تفضل يا شيخنا هدايتهم، بدلا من موتهم على الديانة اليهودية والنصرانية؟ خصوصا وأن ديننا ضد العنف والأذى» تلقى الإمام كلامي بصدر رحب وفهم مغزى سؤالي وأجابني «ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه دعا على المشركين في حالة حرب، ولكن الأصل بالفعل هو الدعاء لهم بالهداية»، والجميل في الشيخ أنه دعا في اليوم المقبل دعاء يختلف كليا عن دعائه الذي لم أقل فيه آمين. هذا الموقف جعلني أتساءل لو أسلم يهودي أو مسيحي وصلى خلف إمام يدعو على الكفار بالعذاب والموت، هل سيقول آمين؟ هل نتوقع منه أن يتمنى العذاب والموت لأهله وأقاربه؟ بل هل سيقتنع أن الإسلام فعلا دين السماحة والتعايش؟

مثل هذه المواقف وغيرها جعلتني أستوعب أن الذي نناجيه هو العظيم الجبار، فأدركت أن اختيارنا للكلمات والأسلوب لا بد أن يكون بما يتناسب مع المناجى جل شأنه وعلا قدره، وكذلك تذكرت أن من ندعو ونطلب هو القادر على كل شيء وهو الكريم المعطي لذلك سأطمع بالطلب وأستبعد أن يكون مستحيلا على الله. لذلك سأدعو للأعداء بالهداية، وللمجرم بالتوبة، والعاصي بالستر. وسأتخذ من سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبرة، فهو الذي ناداه ملك الجبال يوم الطائف «إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا».

قفلة:

سبحان أكرم من قال «ادعوني أستجب لكم» وقال «ادعوا ربكم تضرعا وخفية»، وقال «فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان».

نشرت المقالة في صحيفة مكة

لست متأمركا

أصبحت زيارة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للمملكة حديث المجالس والإعلام لهذا الأسبوع، وبما أنه كذلك، سأتحدث عن أمريكا التي أعرف بعيدا عن السياسة التي لا أفقهها. سأتحدث عن المدة الطويلة التي قضيتها في أمريكا. قضيت فترة منها وأنا طالب جامعي أعزب، وفترة أخرى وأنا موظف متزوج وأب.

هذه المدة كفيلة بأن تعرفني أكثر بأمريكا وأهلها. وفي هذا المقال لست بصدد المبالغة في مدح أمريكا وأهلها ففيها الصالح والطالح كأي شعب على وجه المعمورة، ولكني سأتطرق للصالح الذي أعتقد أنه أضاف لي، والذي قد يخفى عن الكثير ممن سمع بأمريكا ولم يرها على وجهها الحقيقي.

هناك، عشت في بيئة منفتحة تختلف عن البيئة المحافظة التي عشتها في مملكتنا، فوجدت الفوارق بين البيئتين، ساعدني ذلك على زيادة فهمي للإسلام وتعمقي فيه أكثر. هناك لم يكن لدي رقيب ولا حسيب إلا الله سبحانه، والسبل كانت متاحة أمامي لأي منكر أو عمل مخالف لتعاليم ديننا.فالحرية وعدم التدخل في شؤون الآخرين التي عشتها هناك عرفتني معنى أن أحفظ الله ليحفظني، وعرفتني معنى الإحسان الحقيقي، ووضحت لي الفرق بين الخوف من الله والخوف من كلام الناس، وقتها وضحت لي القيم التي زرعها والداي في، فكانت الرادع بعد الله من المنكرات، كل ذلك لم أكن لأدركه إلا من خلال تجربتي في أمريكا.

إن مما عرفته في أمريكا هو أن الإسلام ليس فقط عبادات وعقيدة، بل أخلاق وسلوك. فكثير من سلوك وأخلاق الشعب الأمريكي هي بالأساس من صفات المسلم قبل أن تكون «أمريكية»، فعرفت أن أخلاق الإسلام هي الأخلاق التي فطر الإنسان على اتباعها. هناك، وجدت الابتسامة والبشاشة والمساعدة والدعم في أناس لا تربطني بهم إلا الإنسانية. أدركت أن هذا التهذيب هو ما يجب أن يكون فينا نحن أتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه هي خصاله وخصال صحابته.

هناك عرفت أن النظافة جزء من سلوك المجتمع، فنادرا جدا أن ترى قذارة في الشارع أو الحدائق أو بقايا طعام على طاولة مطعم، الكل يترك المكان أفضل مما كان عليه. هناك، شاهدت وعشت الالتزام، واحترام الجميع، هناك لاحظت أن التطوع ومساعدة المحتاج جزء من حياة الإنسان. هناك، عشت مع أجناس وأديان مختلفة، إلا أن ذلك فعلا «لم يفسد للود قضية».

أقول هذا الكلام، وكلي خوف من أن أتهم بالتأمرك أو التغريب، إلا أني أقول ذلك لما أراه من توافق مع ديننا الحنيف ومع أخلاق المسلمين الذين سبقونا ونقلوا لنا هذه التعاليم النبوية الشريفة. أقول هذا الكلام بالعين التي تريد الاستفادة من إيجابيات المعيشة في أمريكا، لا ذما لسلبياتها. أقول هذا الكلام وأنا بكل فخر لست متأمركا، بل مسلما أدرك عمق الإسلام في الغربة.

قفلة:

أن نمتدح أمريكا لا يعني أننا ننتقص من أنفسنا، فلقد سبقنا الصحابي عمرو بن العاص عندما وصف الروم فقال: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وأرحمهم لمسكين ويتيم وضعيف.

نشرت المقالة في صحيفة مكة