اجلد ذاتك

إنا عادة – كمجتمع – ننتقد من يجلد الذات لما في ذلك من دعوة للإحباط، ومن مبالغة في تحميل الذات أخطاء لا يمكن احتمالها، وأيضا هي وسيلة لبث روح الانهزامية. فانتقاد هذه الظاهرة أمر مفهوم، أما ما لا أفهمه هو انتقادنا لشيء غير موجود في مجتمعنا ولا أراه بين كتابنا ولا أسمعه في برامجنا ومجالسنا. إن ما نظنه جلدا للذات ما هو إلا جلد للمحيط الذي نحن فيه. فعندما نتهم الحكومات بالتقصير، وعندما ننكر على التجار غلاء الأسعار، وعندما نلوم المثقفين على الانعزال عن المجتمع، وعندما نذم أصحاب الرأي على ابتعادهم عن هموم المجتمع، وعندما نعيب بعض ثقافاتنا التي ورثناها من آبائنا، ونشتكي من تناقض عاداتنا وتقاليدنا التي فرضت علينا، إننا بذلك لا نجلد الذات بل نهرب من الحقيقة ونتهم محيطنا وكأننا لسنا جزءا منه.

إن جلد الذات مرحلة متقدمة من مراجعة النفس وتحليل تصرفاتها، ومحاولة لتهذيبها، وهذا ما نحن أحوج إليه في هذا الزمن، لا انتقاد المحيط وكأن المجتمع شيء ونحن كأفراد أشياء أخرى. إننا إن راجعنا مبادئنا وراقبنا أعمالنا وأقوالنا ودورنا في تصحيح واقعنا لكان أنجع وأسلم الطرق للإصلاح والتصحيح بدلا من جلد الآخرين ظانين أننا نجلد ذواتنا. فمثلا، هذا المقال هو أحد الأمثلة لما نعتقده جلدا للذات، فكلامي موجه للقراء وكأني لست جزءا منهم، وكأن الخطأ الذي يقع فيه المجتمع لا أقع فيه. فليتني قبلكم ركزت على أفعالي وأقوالي قبل الالتفات لمن حولي.

فليس من المعقول ألا أؤدي عملي البسيط في دائرتي الصغيرة على أكمل وجه ثم أنتقد غيري من المسؤولين. وليس منطقيا أن أسهر الليل وأنام النهار ثم ألوم رجال الأعمال على ضعف دورهم في تحسين الوضع الاجتماعي. ومن الظلم أن أكتب مقالة في دقائق أسخر فيها من فريق وصل الليل بالنهار لإنجاز عمل معين.

طبعا، أنا هنا لست مدافعا عن أحد، ولا أصادر حق الانتقاد من أحد، ولكن أعتقد أنه إن كان بنا خلل وضعف، فهما من جهل أدوارنا كأفراد في تصحيح الخلل، وأننا استسهلنا انتقاد المحيط، فقليل منا راجع ذاته وحاول إصلاحها إصلاحا يفيد المجتمع.

يرشدنا الله تعالى إلى أساليب الإصلاح والتغيير والتطوير وذلك في سورة الرعد فقال – عز وجل «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، وهنا دلالة على أن تغيير القوم (المجتمع) لن يتم إلا بتغيير النفس (الفرد). فلو نعي ذلك ونلتفت إلى أنفسنا ونراجعها ونحلل تصرفاتنا لما كنا في صراع دائم مع أفراد المجتمع في توجيه أصابع الاتهام إلى بعض. فكلنا خطاؤون، وكلنا لم يصل للكمال، فليتنا نراجع أنفسنا أو حتى نجلد ذواتنا للوصول إلى مرحلة قريبة من ذلك الكمال بدلا من جلد من لا نملك سلطة على تغييرهم.

قفلة:

فيما مضى كنت أحاول أن أغير العالم، أما الآن وقد لامستني الحكمة، فلا أحاول أن أغير شيئا سوى نفسي

جلال الدين الرومي

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

سر النجاح

الجميع يبحث عن النجاح لنفسه ولعمله ولوطنه، وللوصول إلى النجاح نسعى دوما للاستفادة من تجارب الآخرين الذين سبقونا لقمم النجاح. هنا، لن أتحدث عن النجاح أو طرقه، ولكن سأتحدث عن محاولاتنا في الاستفادة من تجارب الآخرين. فبعضنا يفتقد للفهم الحقيقي والتحليل العميق لتجارب الآخرين فتراه يختزل النجاح في خطوات صغيرة وبسيطة لا يمكن الاستفادة منها استفادة ناجعة.

فمثلا، رائد الأعمال الناشئ يقرأ بعض الاقتباسات ويسمع بعض الخطب الحماسية عن نجاح رجال الأعمال الكبار، ويرى أنهم كانوا أهل مخاطرة ويمضون ساعات كثيرة في أعمالهم ولا ينامون إلا ساعات قليلة في يومهم، فيظن أن هذه العناصر فقط هي أسباب النجاح. وأؤكد على كلمة فقط. فلا تحليل عميقا أجراه عن كل حالة نجاح ليفهم أن الأمر يتطلب أكثر من بعض الممارسات الحياتية، فالنجاح ليس له وصفة بسيطة تختزل في نصيحة تقتبس.

وهذا الفهم الخاطئ ينطبق على أمور أخرى، ففي أحد النقاشات مع ولي أمر طالب صادفته في لقاء ودي تحدث عن انزعاجه من كثرة الواجبات المنزلية التي يقوم بحلها ابنه، ويؤكد أن تعليمنا لن يرتقي ما دامت الواجبات جزءا من نظامنا التعليمي. وحجة ولي الأمر أن الطالب المدرسي في فنلندا – المصنفة أفضل نظام تعليمي عالميا – لا يحل أي واجب منزلي. ومثل هذا الاختزال البسيط في تخلف التعليم وتميزه مدعاة للاستنكار، وبعض الأحيان الغضب. فكيف يصنف التعليم بممارسة بسيطة مثل حل الواجبات؟ لا شك أن الواجبات المنزلية محل نقاش في أهميتها في التعليم من عدمه، لكن من الجهل والسطحية أن نحكم على نظام تعليمي كامل بممارسة بسيطة مثل الواجبات المنزلية.

أما ما جعلني أكتب هذا المقال فهو حين كثر النقاش حول رؤية المملكة لعام 2030 في مجالسنا الخاصة وفي وسائل إعلامنا المرئية والمقروءة، وأسمع من يقارن حالنا بحال دول آسيوية وأوروبية سبقونا في التقدم الاقتصادي والصناعي والبشري. في هذه النقاشات أسمع اختزالات كبيرة لتجارب الدول الأخرى وتبسيط أسباب نجاحهم جعلتني أقرأ أكثر عن هذه الدول ومحاولة فهم ما مروا به من تغيرات وتحولات ونجاحات وفشل. إن تجاربهم معقدة جدا ويتطلب الأمر لجهود أصحاب فكر وخبرة للاستفادة من تلك التجارب. أما أن نقرأ مقالا أو نشاهد فيلما وثائقيا مدته ساعتان ثم نقترح مواءمة ما استوعبناه لتحقيق رؤيتنا الخاصة فهو الجهل بعينه.

خلاصة ما أود قوله، لكل تجربة نجاح معطيات مختلفة ومحاولات خاصة ببيئات متباعدة وإمكانيات متفاوتة، لذلك لا يمكن لأي تجربة أن تتكرر. نعم نستفيد منها ولكن لا يمكننا استنساخها.

وللاستفادة من تلك التجارب، يتطلب الأمر تدخل الجامعات لإقامة دراسات حالات (case studies) ومراكز أبحاث مستقلة (Think Tanks) لتقييم كل تجربة وتدوينها في أبحاث علمية يمكن للدارس قراءتها لفهمها الفهم الصحيح والاستفادة منها في تجاربه العملية. أما الاقتباسات والنصائح التي تكتب في قروبات الواتس اب وتويتر والخطب التحفيزية التي نشاهدها في اليوتيوب ما هي إلا أدوات بسيطة تحفيزية داعمة، وليست سببا رئيسيا في فهم طريق النجاح.

قفلة:

هناك فرق كبير بين معرفة تجارب الآخرين وفهم نجاحهم.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

شهر بلا هاتف ذكي

التجربة:
قررت أن أستغني عن هاتفي الذكي (آيفون) لمدة شهر كامل واستبداله بالجوال العادي الذي كنا نستخدمه قبل عشر سنوات من الجيل الثاني (2G)، فلا برامج ولا انترنت، فقط استقبال وإرسال المكالمات والرسائل النصية (SMS). أما البرامج المتعلقة بالتواصل الاجتماعي والانترنت فيمكنني الدخول إليها عن طريق جهاز الحاسب، متى ما سنحت الفرصة.

الأسباب:
لاحظت أني – كغيري من مستخدمي الهواتف الذكية – تعلقت بهذا الجهاز السحري، فلا يمكنني الاستغناء عنه أبدا، لا أستغني عنه في المجالس ولا في الاجتماعات والمناسبات، فهو معي أينما أكون، وعيني لا تغيب عنه أكثر من 10 دقائق، تعلقت به حتى وصلت لمرحلة لم يعد لي الوقت للتأمل والتفكر، فكلما شعرت بفراغ بسيط، أشغلت نفسي بهذا الجهاز الذي بين يدي.
ولاحظت أيضا أني أصبحت أنسى أكثر من أي وقت مضى، فالمواعيد الضرورية التي لا تدون في جهازي أصبح الصبح ناسيها، وكذلك كثير من المواقف والأحداث المهمة كلها تنسى؛ بسبب انشغال عقلي الصغير بأخبار هامشية ونقاشات عديمة الفائدة متناولة في برامج هذا الجهاز الذكي. ومما لاحظته أيضا، الشعور بالملل بشكل سريع من الحياة الحقيقية، فما إن شعرت به حتى أخرجت هذا الجهاز الصغير ليدخلني إلى عالم افتراضي لا يمل، ولذلك قررت أن أخوض هذه التجربة.

النتائج:
في بداية الأمر، شعرت بفقدان شيء أساسي من حياتي فأصبحت كالمشلول عن التحرك بدونه، فكل نصف ساعة أدخل يدي في جيبي باحثا عن أنيسي، لأنصدم بالواقع أن في جيبي أداة أصبحت من الزمن القديم لا تلبي احتياجاتي. كان شعورا صعبا وغريبا، ولكن مع مرور الأيام لاحظت أشياء جميلة كنت قد افتقدتها العشر السنوات الماضية.
فإنتاجيتي في العمل زادت لخلو يوم عملي من أهم الملهيات في العصر الحالي. ومع هذه التجربة، أصبحت لا تشغلني من أخبار العالم إلا القليل المهم، لا القضايا الهامشية والتافهة. وبدون الجهاز الذكي، أصبح حديثي مع جلاسي أكثر من السابق، وأعرف أخبار أصدقائي الحقيقيين أكثر ممن أتابع من الوهميين. وفهمت لماذا يغضب البعض من وجود الهواتف بين أيدي الناس في المجالس، فكم هو شعور قبيح أن ترى من يجلس معك ينشغل عنك بمشاهدة صور أو مراسلات لا قيمة لها، فتحس بقلة الاحترام. ومما أدهشتني به النتائج هذا الشعور الجميل بالخلوة مع النفس ومراجعتها والتأمل والتفكر، فيا الله كم هو جميل هذا الشعور وضروري. شعور افتقدته لدرجة أني استغربته ويصعب علي شرحه.
رغم قلة ما فقدته بفقدان الجهاز الذكي، إلا أنها ضرورية فلقد فقدت المعلومة السريعة التي بين اليدين، والبحث عن الأماكن وترتيب جدول الأعمال في جهازي، وسهولة إنجاز أعمالي في أي وقت ومكان.

الخلاصة:
إن الجهاز الذكي من أساسيات عصرنا هذا، وهو وسيلة لتسهيل الحياة، ولكن كما يقال في المثل الشعبي «كل شيء إن زاد عن حده انقلب ضده»، فالاتزان في استخدامه هو الأمثل، ولا يجب أن نقتني الجهاز الذكي لنصبح نحن أقل ذكاء وأبعد عن الواقع.

قفلة:

بعد التجربة اتضح لي أن الحياة جميلة وتدعو إلى التفاؤل، وأن العالم أوسع من جهاز يحمل في اليد، وأن الدنيا ولله الحمد لا تزال بخير.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة