مطبخ المنشآت

الجامعة.. الجامعة.. الجامعة.. وللمرة الرابعة الجامعة هي المؤسسة التي تعتبر مطبخا رئيسيا للمنشآت ومصنعا للاقتصادات ومولدا للوظائف وحلا للبطالة. حصلت لي فرصة الأسبوع الماضي على أن أطلع وأسمع عن فعاليات مشاريع طلاب وطالبات الجامعات في بلادنا المباركة.

وهي فعاليات تقام كل سنة في مثل هذا التوقيت. والطابع المشترك في كل هذه الفعاليات هو الحماس والجدية والاندفاعية التي تكاد تهد الجبال. هؤلاء الشباب والشابات يملكهم طموح عال وإصرار عجيب، فلا خوف ولا تردد في مواجهة أي تحد. ومما يثلج الصدر أن إيمانهم بقدراتهم يؤكد أن مستقبلهم أفضل من حاضرنا.

إن سن هؤلاء الطلاب تسمح لهم بفهم احتياجات المجتمع أكثر منا، ويمتازون بأن عقولهم لا تزال نشيطة ويطغى عليها الابتكار والإبداع فتسمع منهم أفكارا خارجة عن الصندوق، وتشاهدهم يقدمون حلولا جذرية لمشاكل تعودنا عليها. وكل هذه المشاريع تعرض فقط أمام المشاركين من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، ومن ثم تقدم بعض الجامعات – مشكورة- جائزة بدعم الفكرة الفائزة (حسب تصويت منسوبي الجامعة)، أما الأفكار والمشاريع الطلابية الأخرى فأغلبها تنتهي مع انتهاء حياتهم الجامعية. وبعد انتهاء هذه الحياة الجامعية المليئة بالحماس وروح الفريق والتعاون والأفكار النيرة يتجه كل خريج حاملا سيرته الذاتية وشهاداته باحثا عن وظيفة في إحدى مؤسسات الدولة أو في القطاع الخاص.

السؤال: لماذا هذه الأفكار الحماسية والطاقة المذهلة تنتهي مع الشهادة الجامعية؟ لماذا لا يكبر أثر معرض المشاريع؟ أليس من الممكن الاستفادة من خبرات المستثمرين والقطاع الخاص في تحويل هذه الأفكار والمشاريع إلى منشآت تخلق وظائف وتولد اقتصادا جديدا؟ أليست الاقتصادات القوية مبنية على منشآت صغيرة ومتوسطة؟ إني حين أسمع وأقرأ عن شركات ناجحة في العالم أرى كثيرا منها بدأ في الحرم الجامعي. شركة قوقل، ومايكروسوفت، وفيس بوك، حتى فيديكس ومجلة التايمز، كل هذه الشركات طبخها طلاب في الحرم الجامعي. ولكن الفرق بينهم وبين طلابنا أنهم وجدوا من يتبناهم ويجعلها حقيقة. مهما كان الطالب مبتكرا ومبدعا إلا أنه يحتاج إلى خبرة المستثمر، ولله الحمد أن أهل هذا البلد لا ينقصهم الحس الإبداعي ولا الخبرة الاستثمارية، ولكن ينقصهم من يسهل عملية الالتقاء والاتصال والشراكة.

فكم كنت أتمنى أن أشاهد الشركات وكبار المستثمرين يتجولون خلال المشاريع ويرشدون وربما يشاركون الطلاب في تحقيق أحلامهم وبناء منشآت تساهم في ازدهار البلاد بشكل عام.

قفلة:

يوجد شخص ما، في مكان ما في أحد الكراجات يجهز للقضاء علينا. أعرف ذلك، لأننا منذ فترة ليست بالبعيدة كنا في نفس هذا الكراج. التغيير يأتي من حيث لا تتوقع

إيرك شميت (مؤسس شركة قوقل)

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

ماذا بعد الرؤية؟

قد يتفق الكثير مع تفاصيل رؤية المملكة العربية السعودية 2030 ويختلف معها آخرون، وهذا أمر مفهوم ومقبول، بل إنه محمود ومطلوب. فالاختلاف سنة إلهية ماضية إلى يوم القيامة، ولولا تنوع الآراء وتعارضها لما أبدع الإنسان. ولكن مما لا اختلاف فيه هو ضرورة وجود رؤية ترسم لنا ولأبنائنا معالم مستقبل هذا البلد، فكما استفدنا ممن سبقونا أن الفشل في التخطيط هو التخطيط للفشل.

هنا لن أتحدث عن تفاصيل الرؤية وما لها وما عليها، ولكن سأتحدث عن آلية تحقيق رؤية أقرت وأعلنت والمطلوب من الجميع المساهمة في تحقيقها. ذكر ولي العهد – مهندس الرؤية – في لقائه مع قناة CBS أن من أهم وأول تحدياتها هي إيمان الناس بها. وهذا بلا شك تحد كبير، ولكنه تحد متوقع وتؤكده إحدى النظريات الإدارية النفسية التي تذكر أن مراحل قبول التغيير ثلاث: الصدمة والنكران، ثم الغضب والكآبة، وأخيرا القبول والاندماج. وإن شاء الله أننا سنصل جميعا للقبول والاندماج مع الوقت وممارسة الإجراءات اللازمة للوصول لهذه المرحلة.

وهناك تحد آخر لا يقل أهمية عن إيمان الناس بالرؤية، وهو إيجاد قدرات وتأهيل كفاءات تساهم بفاعلية في تحقيق هذه الرؤية، فهي لن تتحقق إلا بمواطني هذا البلد من رجال ونساء. فهل شبابنا وشاباتنا مؤهلون لتحقيق أهداف الرؤية؟ وهل هم مستعدون للتغير الذي ترجوه الرؤية؟

يجب ألا ننسى أن الرؤية ليست قصيرة المدى، ولكنها تمتد إلى أكثر من 10 سنوات، وهذا يعني أن من سيحمل لواء التغيير والتحول وبإذن الله الاستمرارية في النهضة موجود حاليا في مدرسته، فهل ما تقدمه المدارس يواكب ما نطمح له؟ إن هؤلاء الشباب – ممن نتوقع منهم المساهمة في تحقيق الرؤية – يعيشون في ظروف تختلف عما عاشه من رسم الرؤية. فلا الطموح نفس الطموح، ولا اللغة نفس اللغة، وحتى القيم والثقافات وربما المعتقدات اختلفت. فالجيل الجديد تشكل من خلال تداخلات كثيرة وكبيرة نتيجة للعولمة وسهولة التواصل والانخراط في عالم وسيع أوسع مما عشناه. نعم هم من أبناء هذا الوطن، ولهذا الوطن تأثير عليهم، ولكن التأثير من الخليط من المجتمعات والثقافات الذي انفتحوا له أكبر في تكوين شخصياتهم. لذلك أعتقد أن رؤية بهذا الطموح تحتاج لبرنامج أساسي يدرس وضع الأجيال القادمة ومحاولة فهم متطلباتهم وقدراتهم ومعرفة البيئة المحببة لهم ثم على إثر هذه الدراسة ترسم خطط لتأهيلهم واستغلال إمكانياتهم وخلق بيئات مناسبة لهم لتكون الرؤية حقيقة. فبتسليح هذا الجيل بالعلوم الجديدة والمهارات المطلوبة والثقافة العالية فقط تتحقق الرؤية.

قفلة:

من أهداف رؤية «2030 الارتقاء بمؤشر رأس المال الاجتماعي من المرتبة 26 إلى المرتبة 10»، وكيف يمكن لرأس المال الاجتماعي أن يرتقي بدون فهم وتأهيل جيل يشكل 70% من المجتمع السعودي؟

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

عندما يكون المعلم مربيا

زارت والدة الطالب «جيمس» مدرسة ابنها للتأكد من مستواه الدراسي، وأثناء زيارتها قابلت معلمة الرياضيات فسألتها عن سر أسئلة نهاية الأسبوع التي تقدمها المعلمة لطلابها في الصف الخامس، وما علاقة هذه الأسئلة بمادة الرياضيات.

ابتسمت المعلمة وشرحت لها أن دورها لا ينحصر في تقديم المادة العلمية، ولكنه يتجاوز ذلك بكثير، فالطلاب – كما تعتقد المعلمة – مسؤولية عظيمة وتعليمها القراءة والكتابة والحساب من أقل الضرورات التي على المعلمة القيام بها. فكما أن الطالب عقل وجسد، فهو روح وقلب، وعلى المعلم الاهتمام بهذا الجانب المهم. فهي كمعلمة تسعى لبناء قلوب رحيمة وأرواح محبة قبل بناء عقول تعرف الجمع والطرح والضرب والقسمة، ومن هذا المنطلق أعدت هذه الأسئلة التي تقدمها كل يوم جمعة لطلابها الصغار.

تشرح المعلمة عملها بأنها كل نهاية أسبوع تطلب من طلابها كتابة أسماء زملائهم الذين يودون الجلوس معهم في الأسبوع القادم، وأيضا ترشيح أفضل طالب لهذا الأسبوع على ورقة خارجية، ثم تأخذها منهم مؤكدة أنه لا أحد سيقرؤها سواها، وتوضح لهم أن طلباتهم ليس بالضرورة ستنفذ. وبعد أن تأخذ الأوراق، تقوم بتحليلها لتجيب على الأسئلة التالية: من من الطلاب لم يتم اختياره؟ من من الطلاب لا يعرف من يختار؟ من من الطلاب الذين لم يرشحوا للقب أفضل طالب في الأسبوع؟ من من الطلاب الذين اختيروا في السابق ثم لم يختاروا لهذا الأسبوع؟ تسأل المعلمة هذه الأسئلة لكي تعرف من من طلابها وحيد وغير مرغوب من البقية. إن ما تقوم به المعلمة هو أشبه بعمل «أشعة» قلبية لطلابها، فتحاول أن تعالجها قبل أن تكسر هذه القلوب بأسباب كالتنمر أو الشعور بالعزلة عن المجتمع. وبناء على نتائج هذه الأشعة، تفعل المعلمة برامج لتعزز من ثقة الذي لم يختر وتخلق بيئة تسود فيها المحبة بين الطلاب المستثنين من قائمة الأصدقاء.

انبهرت والدة «جيمس» مما تقوم به المعلمة وحيتها على ذلك، وسألتها منذ متى وهي تقوم بهذا الروتين؟ فأجابت «المربية» أنه بعد حادثة مجزرة ثانوية «كولمباين»، والتي كان سببها طلاب شعروا بكره عميق تجاه المدرسة والطلاب، فأطلقوا النار عليهم وقتلوا أكثر من عشرين بريئا، قررت أن يكون لها دور في إنقاذ الطلاب من أي حوادث مشابهة من خلال تربيتهم على الحب والرحمة.

حين سمعت قصة معلمة «جيمس» من زميلي، شعرت بقشعريرة غريبة! فأي عطاء وإخلاص تمتلكه هذه المربية العظيمة؟ لم تكتف بأداء عملها المطلوب، بل تجاوزت الواجب بكثير لأنها مؤمنة بأن الإنسان صاحب رسالة ومساهم في بناء الأرض وإعمارها قبل أن يكون موظفا

أو معلما. فما أجمل هذا الإنسان إن أدى الأمانة وأخلص لها وترك بصمة في هذه الحياة حتى لو لم يرها أحد فيكفي أن يرضي ضميره. متأكد أن لدينا في وطننا مثل هؤلاء المخلصين خلف الأضواء يعملون بصمت ويتركون أكبر وأهم الأثر، وأعرف أنهم يقومون بذلك غير باحثين عن الشكر أو الثناء. فلهم أدعو الله وأقول، الله يكتب لكم الأجر والثواب في الدنيا والآخرة ويرزقكم الرضى حيث كنتم.

قفلة:

إن من صفات الأبرار التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة الإنسان أنهم يفعلون الخير لوجه الله لا ابتغاء للجزاء ولا الشكر.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

ليس دينا بل رسالة متجددة

مع بداية كل عام دراسي، أراجع النظام التعليمي وأتقصى حال الطلاب، فأحضر الإذاعة الصباحية، وأتأمل طريقة إعطاء الدروس، وأراقب اللوحات الترحيبية والشعارات التحفيزية فأجدها لم تتغير منذ أن كنت طالبا في الابتدائية. ربما هذا النظام التعليمي والأساليب التربوية كانت نافعة مع جيلنا ومع الأجيال التي سبقتنا، وأعرف أنها مبنية على دراسات وأبحاث تربويين مختصين، ولكن هل هذه الأساليب لها نفس الأثر على الجيل الحالي؟

إن المفهوم الاجتماعي لمصطلح «جيل» هو المرحلة العمرية لأشخاص لا يمكن لمس فروقات كبيرة في الأفكار والأذواق والاهتمامات بينهم، وتقدر هذه المرحلة العمرية لدى كثير من علماء الاجتماع بثلاث وثلاثين سنة تقريبا. تناقشت مع صديق مقرب حول هذا التعريف، فوصلنا إلى أن الزمن الحالي ومع السرعة العظيمة للمتغيرات الثقافية والاجتماعية والتقنية نشأ لدينا أجيال داخل الجيل الواحد. فلو قارنا -ولا أحب المقارنة- بين الفروقات بين جيلنا وجيل أبي لوجدنا أن الفروقات موجودة ولكنها مقبولة ويمكننا التكيف معها. أما الآن فالطفل ذو السنوات السبع يختلف عن الشاب ذي الأربع عشرة سنة، فلا الاهتمامات متشابهة ولا اللغة نفسها، ولا حتى الذوق. ومع سرعة التغييرات وكثرتها كبرت الفروقات مما جعل الأطفال والشباب يعيشون في عالم مختلف تماما عن عالمنا وعالم آبائنا.

فلو نظرنا إلى حال المدارس، والمساجد ومجالس الرجال، فهي كانت بالنسبة لنا ولمن سبقنا المشكل الرئيس لشخصياتنا وثقافتنا، أما الآن فأشك أن تجد شابا أقل من عشرين سنة يمكن أن يستفيد من الدروس المعطاة في هذه الأماكن. فهو لا يفهم درس المعلم لأن المعلم يستخدم أسلوبا يمله الطالب، ولا يصغي لموضوع خطبة الجمعة لأنها لا تلامسه، ولا يركز في مجالس الرجال لأنه لا يفهم لغتهم.

يجب علينا الالتفات جميعا إلى أهم قضية في مجتمعنا ومراجعة أساليبنا فيها، فلا يمكن تجاهل هذا الخلل الكبير، والإصرار على تكرار الأساليب التربوية رغم ضعف جدواها في الزمن الحالي. فالطريقة التي تعلمنا بها لا يجب على أبنائنا التعلم بها ليصبحوا مثلنا. علينا استيعاب ثقافتهم، وتقبلها والنزول لها. على المعلم في مدرسته الاستماع لطلابه أكثر من إلقاء النصائح، وعلى الأب التخلي عن السلطة الأبوية التي لم يعد يتقبلها الطفل، وعلى خطيب المسجد تلطيف اللغة وملامسة الواقع وتجديد الخطاب. إن لم نفعل ذلك، فالشاب سيجد ضالته في وسيلة أخرى ولدى أشخاص آخرين سيكونون في متناول أيديهم.

إن قضية التربية قضية عامة ويمكن للجميع المساهمة في تطويرها، فتحية للمعلم الذي يقضي ساعات طوالا في اليوتيوب والسناب شات ليستوعب طلابه، وتحية للأم وللأب المستمع والمتقبل لاختلافات أبنائه وبناته، وتحية لصاحب منبر سخره في تجديد الخطاب الديني وملامسة القضايا الاجتماعية ليلامس الشريحة الأكبر في المجتمع. هؤلاء هم المؤثرون فعلا وهم من عرف بأن التربية رسالة متجددة وليست علما ذا أصول ثابتة.

قفلة:

كل الأزمات يسهل تجاوزها، إلا الأزمة التربوية، فإنها سبب للأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية والإعلامية وغيرها من المصائب.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

التاريخ و1115هـ

اطلعت على علم التاريخ لأول مرة في الصف الرابع الابتدائي عندما كانت مادة دراسية، وكان علما لا يستهويني فلقد أجبرت على معرفة أسماء أناس لم أشاهدهم ولا أعرف عنهم إلا ما يكتب في مقرر المادة. واستخدمت كل أنواع الحيل لحفظ تواريخ هجرية وميلادية أشغلت عقلي الصغير. ومما أذكره من الحيل هو حفظي لسنة ميلاد الداعية المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب فهو من مواليد عام 1115هـ وما أزال حافظا لهذا بسبب الحيلة التي علمني إياها معلمي باستخدام يدي اليسرى فأرفع الخنصر والبنصر والوسطى وأجعل السبابة ممسكة

بالإبهام فيظهر لي شكل مقارب لـ 1115. هكذا كانت مادة التاريخ بالنسبة لي في فترة المدارس، مادة جافة أحفظها لكي أحصل على درجة مميزة ثم أنسى معظمها إن لم يكن كل تفاصيلها بعد إجازة الصيف.

كبرت قليلا ودخلت مرحلة المراهقة، فرجعت لعلم التاريخ من خلال الرواة والدعاة و«الحكواتية» فسمعت قصص وأمجاد الخلافة الراشدة والدول الأموية والعباسية والإخشيدية وما تلاها. كنت أستمتع ببطولات وصولات وجولات أجدادنا والأوائل العظام وأفخر بهم. وبعد الانتهاء من سماع تلك القصص ظننت أني أدركت واستوعبت تاريخنا فأحببته وتعلقت بأمجاده، لم لا وقد عرفت أسماء كثير من الأبطال المؤثرين وسمعت عن خصالهم وحفظت نسبهم وأصلهم، أليس هذا كافيا للادعاء بمعرفتي بالتاريخ؟

تجاوزت مرحلة المراهقة ودخلت مرحلة الشباب والحماس، فزاد اهتمامي بحاضري أكثر من لهفي بالتاريخ، فحاضري هو ما سيحفر لي اسما بطوليا في التاريخ يفتخر به أبنائي. فأجدني تارة مهتما بالقضايا الاجتماعية وقيم المجتمع، وأحاول أن أستوعب الخلل وطرق إصلاحه، ثم ألتفت إلى الأمور الاقتصادية، ومحاولة معرفة الأسباب التي تجعلنا أمة متبوعة لا تابعة، وتارة أحاول أن أفهم علاقاتنا الدولية والإقليمية مع الآخرين وكيف أن الخلافات السياسية والإعلامية التي يستخدم فيها الغطاء الديني أشغلتنا عن قضايانا التنموية. أغوص في كل تلك

القضايا بمعزل عن التاريخ، فالتاريخ بالنسبة لي كله أمجاد وبطولات ولا علاقة له بمستقبلنا.

وفي الآونة الأخيرة، وبعد تجاوز مرحلة الحماس المفرط والعاطفة الجياشة، أدركت أن كل مشاكلنا ممكن تجاوزها وحلها بعلم التاريخ. فلقد أيقنت أن دراستنا للتاريخ دراسة بعيدة عن أهدافه الحقيقية، فنحن فعليا نعرف التاريخ ولكن لا ندرسه. نعرف التاريخ لنتباهى به ونحفز أنفسنا على استعادة الأمجاد لا للاستفادة منه والاتعاظ من دروسه.

ألم يقل الله سبحانه وتعالى في سورة يوسف (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)؟ ففي مراجعتنا للتاريخ، لا نتطرق للخلافات وأسباب السقوط فنقول دائما «إنهم قوم اجتهدوا وأفضوا إلى ما قدموا» ولا نستعرضها ونحللها ظانين أننا نتفادى المشكلة بدلا من الاستفادة منها والتأكد من عدم تكرارها. فكل ما تطرقنا لفتنة قديمة أو حرب سابقة نسمع من يقول ناصحا «تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا»، معتقدين أنها سبب للتلوث لا دعوة إلى التحليل والتفسير لجذور مشاكل حالية. إن أحوج ما نحتاجه الآن هو إعادة النظر في دراسة التاريخ، فالدراسة الحقيقية تعني التحليل العميق للماضي، وفهم دقيق لأسباب النجاح والخسارة في كل المجالات.

إننا دائما ما نحمل الأعداء كل مشاكلنا وإخفاقاتنا فهم يستمرون في التآمر علينا، وهذا صحيح، ولكن كل ما يقوم به الأعداء هو دراسة تاريخنا دراسة عميقة وبناء الخطط مستغلين معرفتهم بمكامن ضعفنا وتدمير مصادر قوتنا. نعم فالغرب يدرس التاريخ للاستفادة منه في كل مجال، فالدول لكي تتطور وتتسيد تدرس تاريخ الحضارات الأخرى وتحلل نهوض وسقوط الأمم عبر التاريخ، وكذلك الشركات التجارية تقوم بدراسة تاريخ المنافسين والناجحين والخاسرين، وحتى الجامعات والمدارس فهي تدرس التاريخ الاجتماعي والتربوي لتتمكن من التطوير المستمر. وأكبر شاهد على ذلك هي الميزانيات الكبرى التي يرصدها الغرب لمراكز الدراسة والبحوث التي تعتمد دراساتها بشكل كبير على علم التاريخ.

قفلة:

مقولة «لا تعد اختراع العجلة» لا تنطبق فقط على الصناعة، بل تنطبق على كل قضايانا، وعدم إعادة اختراع العجلة يتطلب دراسة للتاريخ لا معرفته فقط..

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

الإجازة ليست طويلة!

يشتكي كثير من أولياء أمور الطلاب من فراغ أوقات أبنائنا وبناتنا في هذا الصيف، فنحن نشهد حاليا أطول إجازة مدرسية مرت منذ 25 سنة. ويرى كثير من التربويين أن هذه المدة الطويلة من توقف مدارسنا من أسباب ضعف مخرجات التعليم، فالمملكة تقف عند الحد الأدنى لأيام الدراسة بالمقارنة مع بقية دول العالم. ولذلك نكثر من لوم وانتقاد وزارة التعليم كونها المسؤولة عن هذه المخرجات التي نسعى دوما في إصلاحها، فتارة نرى إصلاح التعليم برفع كفاءة المعلمين، وتارة بتطوير المناهج، وتارة أخرى في زيادة مدة الدراسة وغيرها مما يساهم في رفع محصلة الطالب تعليميا وتربويا. ولكن قبل التوصل إلى إصلاحات ممكنة، لا بد من البحث عن أساس المشكلة، فهل هي مشكلة تملك وزارة التعليم سبل إصلاحها؟ وهل فعلا من مشكلاتنا طول الإجازة؟

إن النظام المدرسي أنشئ في القرن الـ19 الميلادي، ومنذ ذلك الوقت وهو يمثل دورا أساسيا في تشكيل شخصية الأطفال، ومع مرور الوقت تطورت المدرسة بشكل كبير، إلا أن دورها أصبح أقل من السابق. فحين نسمع ونقرأ سير من سبقونا نرى أن المدرسة تكاد تكون المصدر الأوحد للمعلومة وتلقي العلم وهي من تشكل ثقافة المجتمع الصغير آنذاك. أما الآن، فالطالب لا ينتمي لذلك المجتمع الصغير المعتمد على المدرسة، بل أصبح عضوا في العالم الواسع الذي سهل فيه تلقي المعلومات والأخبار من خلال ضغطة زر في منزله. أصبحنا نعيش في زمن يساهم فيه الجميع بتشكيل وتأهيل هذا الطفل؛ أصبح الإعلام منهلا تربويا مؤثرا، والترفيه مدخلا جديدا لثقافة الأطفال، ووسائل التواصل الاجتماعي تساهم بدورها في أخلاق الطفل وغيرها من مؤثرات فضاء هذا العالم الفسيح. هذا كله ليس تقليلا من دور المدرسة، ولكن لندرك أنها ليست المسؤولة الوحيدة في تربية ذلك الطفل. فكل من يعول على المدرسة ويتنصل من المسؤولية في تعليم وتربية هذا النشء نقول له: أعد النظر فالكل مسؤول.

إن طالت الإجازة المدرسية الصيفية فهذا لا يعني أن التعليم متوقف، فالطالب يتعلم من الأجهزة التي بين يديه أكثر مما يتعلمه من المدارس، ويتأثر من العالم الافتراضي أكثر من تأثير أهله وجميع المحيطين به، ويشاهد في سفره ما لا يستوعبه في المدارس، ويتعلم من خلال الممارسة ما لا يدركه في المناهج المدرسية، ويقرأ محادثات التواصل الاجتماعي أكثر من قراءته للكتب. نعم نحن في إجازة مدرسية طويلة ولكننا لسنا في إجازة تعليمية أبدا، ولذلك أصبح دور الأسرة حاليا أكثر أهمية في مواجهة هذه الكمية الهائلة من المؤثرات التربوية والتعليمية فطوبى لمن أدرك ذلك واستثمره فيما ينفع أبناءه.

قفلة:

إن رؤية المملكة ورؤية أي أمة لن تتحقق إلا بالإنسان المؤهل، ولا تأهيل إلا بتعليم يتحمل مسؤوليته المجتمع بأكمله؛ بإعلامه، بوسائل ترفيهه، بمؤسساته الأهلية، وبجميع مؤسساته الحكومية لا وزارة واحدة فقط. فالتعليم وسيلتنا لأية غاية، فلذلك يجب أن يكون هو همنا وهاجسنا.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

الخطأ في استخدام كلمة خطأ

في مدارسنا وحياتنا الاجتماعية، لا نصفق غالبا إلا لمن يجيب جوابا صحيحا. وهذا نابع من حرصنا وتشجيعنا على التفوق، ولكن ما مردود هذا التشجيع على من أجاب؟ وما مردوده على غيره؟

تقول الدكتورة كارول دويك، الباحثة في علم النفس، إن الثناء على الصواب فقط غالبا ما يؤدي إلى عقلية تسمى بالعقلية الثابتة (fixed-mindset) وهذه العقلية تؤمن بأن الذكاء فطرة ربانية لا صفة مكتسبة، مما يجعلها تشعر بالخوف مع كل اختبار، لأن الاختبار في نظر صاحب هذه العقلية سيقيس الذكاء، فإن فشل فهذا تأكيد على ضعف قدراته العقلية. أما العقلية الأخرى فاسمها العقلية المتطورة (growth-mindset) وأصحاب هذه العقلية على عكس الثابتة يؤمنون أن الذكاء نتيجة للجهد المبذول وأن المهارات تكتسب بالتعليم، فتراهم يبحثون عن التحديات والاختبارات، لكي تساعدهم على اكتشاف أنفسهم، فإن أخفقوا بذلوا جهدا إضافيا ليتطوروا.

إذن باختصار الفرق بين العقلية الثابتة والمتطورة يكمن في أن الثابتة تؤمن أن النجاح مرتبط بالذكاء الفطري، بينما المتطورة تؤمن بأن النجاح مرتبط بمقدار الجهد المبذول.

ومن هذا المفهوم العميق، يجب علينا إعادة النظر في أساليب الإشادة بأبنائنا. فيمكن للمتعلم التحول من صاحب عقلية ثابتة إلى عقلية متطورة بعبارات بسيطة فمثلا في حالة الصواب يقال له: «اجتهاد مميز … استمر» بدلا من «أحسنت … أنت ذكي» وفي حالة الإخفاق يقال له: «لم تصل إلى الإجابة الصحيحة بعد.. ضاعف الجهد وستصل» بدلا من «خطأ .. حاول مرة أخرى». هذه العبارات وغيرها تحفز المتعلم للتعلم. وأما في مدارسنا، فعلينا معرفة الوقت المناسب للتصفيق والتكريم، فالطالب المجتهد – وإن أخفق – أفضل من الطالب الذي يخاف الإخفاق، فالإخفاق هو أقوى وسائل التعلم. لذلك يجب أن يكون تصفيقنا وتشجيعنا مستمرين لكل مجتهد، فالمطلوب من المتعلم بذل الجهد لا الإجابة الصحيحة.

هذه النظرية النفسية الحديثة تخفى على كثير من الآباء والأمهات، فتراهم يغضبون من أبنائهم إذا حصلوا على درجات دنيا في اختباراتهم، ولا يعلمون أن درجة الاختبار ليست المعيار الأساسي لأداء المتعلم، فهذه الدرجة ليست إلا مؤشرا صغيرا من مؤشرات أهم. ما يجب علينا جميعا فعله هو قياس الجهد المبذول في التعلم، والتحفيز المستمر في بذل مزيد من الجهد لخلق عقلية متطورة. كما يجب علينا أن نعي أن التوبيخ يعني خلق عقلية ثابتة تخشى الاختبار غير قابلة للتعلم. ولنتذكر دائما أن العلماء والناجحين تميزوا بالجهد المبذول وليس بفطرة ذكاء أعلى. ألم يقل أحد أنجح علماء القرن العشرين آينشتاين: «ليست الفكرة في أني فائق الذكاء، بل كل ما في الأمر أني أقضي وقتا أطول في حل المشاكل».

قفلة:

ما أعظم كلام سيد المربين وخير البرية صلى الله عليه وسلم الذي قال: «إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم»!

نشرت في المقالة في صحيفة مكة

الإنسان العامر

عندما قرأت عن تجارب دول صغيرة مثل: سنغافورة وآيسلندا والسويد وفنلندا وجدت أنها لا تملك من الموارد الطبيعية ما تملكه دول رزقت خيرات طبيعية كثيرة، ورغم ذلك إلا أن الوضع الاقتصادي والأمني والتقدم العمراني فيها أقوى وأمتن، والمؤشرات والتقارير العالمية الحديثة تؤكد ذلك. بحثت عن أسباب هذه القوة والتفوق، فوجدت أن هناك سببا واحدا فقط؛ والسبب ببساطة الإنسان، فهو أغلى الموارد الطبيعية وأثمن الثروات وأقدرها على صنع الفارق في أي مكان حل.

ولكن كيف يكون الإنسان السنغافوري أو السويدي أقدر وأقوى من نظيره في دول تعد نامية؟ يبدو لي أن الدول المتفوقة أدركت رسالة رب العالمين جل وعلا التي ذكرها في سورة هود «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» فعرفوا أن العمارة تأتي من الإنسان، وأما الخيرات والموارد الطبيعية فهي مسخرة له كما قال الله سبحانه وتعالى على لسان لقمان الحكيم «ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة». ففهموا أنه مهما رزقوا من خيرات، إلا أن دور الإنسان هو الفيصل. فهو إما ينمي هذه الخيرات ويعمر الأرض أو يهملها ويكون سببا في خراب أرضه.

وكذلك، استنتجوا أنه بما أن الإنسان هو الوسيلة لأي تقدم، أصبح بناؤه أهم وأولى الغايات، فسعوا جاهدين لتهيئة الإنسان العامر وإعداد الفرد العامل المنتج، وذلك من خلال تكامل العمل المؤسسي التعليمي والتربوي والإعلامي مع المنزل والمجتمع بشكل عام. وهذا ما تختلف فيه دول مثل السويد وفنلندا مع أخرى نامية.

وحين أنظر إلى حال بلادنا الغالية، وأقارن ماضيها بحاضرها، أجد أن معظم أجدادنا كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، وأما آباؤنا فكثير منهم حصل على الشهادات العليا، وجيلنا الحالي غالبيته درس في الجامعات. وبعيدا عن كل الانتقادات، هذا تطور ملحوظ وسبب للتفاؤل بمستقبل مشرق – بإذن الله. ولكن أتساءل: هل وصلنا إلى الحد المبتغى من بناء الإنسان؟ أعتقد وبكل يقين أنها عملية مستمرة لا تنقطع ولا حد فيها ما دام النجاح والتفوق هما المطلب المنشود لنا، ولكل أمة على هذه المعمورة.

قفلة:

كلمة قالها والدي – رحمه الله- بقناعة تامة داعبت مشاعر كثير من الناس لما تحمل من حقيقة يؤمن بها كثيرون، فرسخت في أذهان الناس وأصبحت تتداول على الألسن؛ إنه الشعار وراء حبه للرسالة المقدسة «وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة».

نشرت المقالة في صحيفة مكة