لا فسوق

ينتظر العالم الإسلامي كل عام هذه الأيام المباركة، ويتسابق فيها المسلمون للعبادات وخصوصاً الحجاج. ففي بضعة أيام يتجمع الملايين من المسلمين لأداء ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهو ركن يؤدى في بضعة أيام من عمر الإنسان وليس كغيره من العبادات المتكررة. لن نخوض في تفاصيل هذه الفريضة، فنحن دائما نغوص في صفة الحج وأحكامه وواجباته من كل عام وهي معروفة لمن بحث عنها. ولكن الهدف من كتابة هذا المقال هو دعوة للتأمل في قول الله تعالى «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج».

هذه الآية التي نقرؤها دائما مع كل مناسبة حج فيها دلالة على أن الله سبحانه وتعالى يؤكد على أهمية ربط تجنب العادات السيئة بالعبادة، فالحج مع ما فيه من روحانية وقداسة إلا أنه مدرسة للأخلاق وتهذيب للنفس، وهذا جانب مهم من ديننا الإسلامي العظيم نغفل عن تحقيقه. فلو راجعنا صفات الحج لوجدنا أنه يسهل على معظم المسلمين طواف الكعبة ودعاء الله والصلاة ورمي الجمرات وغيرها من المناسك التعبدية، ولكن ربما يصعب على الكثير التحلي بأخلاق أمرنا الله بها وعادات سيئة نتخلى عنها. فلا شك أن الملايين من الحجاج يؤدون الحج بلا أخطاء من ناحية الممارسات، لكن كم منهم أداها بشروطها الأخلاقية وفهم قيمها الراسخة؟

إن توحيد اللباس وتحديد أيام وصفة الحج لجميع المسلمين بغض النظر عن خلفياتهم فيه تأكيد على أننا من طين واحد وأننا نعود لأب واحد، فلا يجب علينا التكبر أو الإحساس بالأفضلية لأن الله ميزنا في أمر زائل من صحة أو مال أو مكانة اجتماعية.

في هذه البقعة المباركة تذكير بأن الله يرانا بتقوانا لا بأي شيء آخر من الأمور الدنيوية. وفي هذه البقعة الطاهرة، ينسى الإنسان الاختلافات العرقية والتوجهات السياسية والرغبات الدنيوية فيعبد الخالق بصفاء ذهن ونقاء نفس وطهارة قلب. وفي هذا المكان المقدس، يراجع المسلم نفسه ويحاسبها ثم يتوب إلى الله ليبدأ صفحة جديدة من حياته ينوي فيها تجنب الأخطاء قدر المستطاع وفعل الخير أينما وجده، ففي الحج فرصة بشرنا بها نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم فقال «من حج فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

في تفاصيل الحج أرى الإسلام الذي فهمته وأجدد علاقتي به كلما راجعته ويزداد إيماني به كلما تعمقت فيه. فهو الدين الذي فيه ممارسات تعبدية مشروطة بسلوكيات أخلاقية. وهو الدين الذي أمرنا فيه بعبادة ربنا والاهتمام بعلاقاتنا البشرية والإحسان لمحيطنا من حيوان ونبات. وهو الدين الذي ينبذ التفرقة والتطرف والغرور والتكبر والكراهية ويدعو للاعتدال والتواضع والمحبة وتقبل الآخر. نعم هذا هو الإسلام الذي يجب علينا إظهاره في الحج وفي كل مناسبة دينية.

قفلة:

ألم تكن خطبة الوداع للرسول صلى الله عليه وسلم مليئة بقيم أخلاقية سامية؟ ألم تكن موجهة لكل المسلمين من مهاجرين وأنصار وغيرهم من القبائل؟ ألم يؤكد عليهم باتباعها والتبليغ بها؟ وكل هذه الوصايا كانت في الحجة الوحيدة التي حجها صلى الله عليه وسلم.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

لن أقول آمين

أحمد الله الذي بلغنا رمضان، وأسأله سبحانه أن يعيننا على طاعته وحسن عبادته. إن لرمضان روحانية وشعورا لا يمكن الإحساس بها في غيره.

ومن أهم أسباب هذه الروحانية هو الدعاء ومناجاة الخالق سبحانه وتعالى، فالدعاء غذاء للروح وعلاج للهم وشعلة للأمل، فله الحمد والفضل على هذه النعمة العظيمة.

مذ كنت صغيرا وأنا معتاد على قائمة من الأدعية حفظتها بعدما سمعتها من مشايخنا من دون استيعابها.

أذكر قصة كانت سببا في استدراكي لكيفية الطلب من الله سبحانه وتعالى، وكان ذلك في أحد مساجد الرياض حيث كنت أصلي التراويح مع الجماعة. وفي دعاء القنوت، دعا الإمام -ككثير من الأئمة «اللهم عليك باليهود والنصارى، اللهم يتم أطفالهم، ورمل نساءهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك» إلى آخر الدعاء. وفي هذه الجزئية من الدعاء لم أقل «آمين» لعدم اقتناعي بالأسلوب ولا بالمطلوب.

ذهبت بعد الصلاة إلى الإمام للتحدث معه، فأحببت أن أبين له وجهة نظري فسألته –معتذرا عن التطفل «يا شيخ، هل يعجز الله هداية اليهود والنصارى ولا يعجزه ترميل نسائهم وتيتيم أطفالهم؟ ألا تفضل يا شيخنا هدايتهم، بدلا من موتهم على الديانة اليهودية والنصرانية؟ خصوصا وأن ديننا ضد العنف والأذى» تلقى الإمام كلامي بصدر رحب وفهم مغزى سؤالي وأجابني «ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه دعا على المشركين في حالة حرب، ولكن الأصل بالفعل هو الدعاء لهم بالهداية»، والجميل في الشيخ أنه دعا في اليوم المقبل دعاء يختلف كليا عن دعائه الذي لم أقل فيه آمين. هذا الموقف جعلني أتساءل لو أسلم يهودي أو مسيحي وصلى خلف إمام يدعو على الكفار بالعذاب والموت، هل سيقول آمين؟ هل نتوقع منه أن يتمنى العذاب والموت لأهله وأقاربه؟ بل هل سيقتنع أن الإسلام فعلا دين السماحة والتعايش؟

مثل هذه المواقف وغيرها جعلتني أستوعب أن الذي نناجيه هو العظيم الجبار، فأدركت أن اختيارنا للكلمات والأسلوب لا بد أن يكون بما يتناسب مع المناجى جل شأنه وعلا قدره، وكذلك تذكرت أن من ندعو ونطلب هو القادر على كل شيء وهو الكريم المعطي لذلك سأطمع بالطلب وأستبعد أن يكون مستحيلا على الله. لذلك سأدعو للأعداء بالهداية، وللمجرم بالتوبة، والعاصي بالستر. وسأتخذ من سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبرة، فهو الذي ناداه ملك الجبال يوم الطائف «إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا».

قفلة:

سبحان أكرم من قال «ادعوني أستجب لكم» وقال «ادعوا ربكم تضرعا وخفية»، وقال «فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان».

نشرت المقالة في صحيفة مكة

آفة المجتمع

كنت أسمع دائما أن جيلنا جيل غير جاد، فنحن لا نحترم من هم أكبر منا سنا، وأننا مترفون جدا لا يرجى منا خير.

وعندما كبرت قليلا، أصبحت أقول مع الآخرين إن الجيل القادم جيل تافه، وشبابه لن يتحمل المسؤولية، وبكل تأكيد أنهم أسوأ حالا منا.

وبعد فترة بسيطة، توقفت وسألت نفسي «إن كنا أسوأ من سابقينا -كما وصفونا – والجيل القادم أسوأ منا – كما نزعم – فإلى أي درجة من السوء نحن متجهون؟» بعدها سقط في يدي نص قرأته كتبه أفلاطون عام 400 قبل الميلاد قال فيه «ما الذي يحدث لشبابنا؟ إنهم لا يحترمون الكبار، ويعصون آباءهم، ولا يحترمون القانون، وأخلاقهم في انحطاط. ما الذي نتوقعه منهم؟».

ونص آخر من أحد القساوسة مكتوب عام 1274م يقول فيه «شباب اليوم لا يفكرون إلا بأنفسهم، ولا يحترمون الآباء ولا من يكبرهم سنا، والفتيات جريئات وغير مهذبات في أسلوب حديثهن، وتصرفاتهن وحتى في لباسهن».

أدركت أن الأمر ليس منحصرا على هذا العصر أو علينا كمجتمع عربي، بل على مر العصور واختلاف الثقافات. فتغير السؤال إلى «هل ما قيل وما نقول صحيح؟» لأنه لو كان كل جيل أسوأ من الذي سبقه لعدمت، ولكن يبدو أن في الأمر خطأ.

نحن لا نستوعب المتغيرات الثقافية والفكرية وحتى التقنية التي تمر بها الأجيال المختلفة، فنقارن جيلا بآخر بمعزل عن ذلك. من هذا المنطلق، أعتقد أن الخلل في الأساس هو استخدام أسلوب المقارنة، فلكل جيل معطياته. ألم يذكر في الأثر «لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»؟ وهذا قول حكيم في نبذ المقارنة.

بشكل عام، المقارنة آفة على المجتمع وعلى الفرد فهي لا تقتصر على انتقاد الأجيال لبعضها ولكن للمقارنة أبعاد أخرى تجعلنا نراجع أنفسنا في بعض أحكامنا وقراراتنا. أدركت ذلك بعد تأمل في قصص القرآن، فالله سبحانه وتعالى يذكر في كتابه المبين موقف إبليس من السجود لآدم عليه السلام، فيقول سبحانه وتعالى مخاطبا إبليس « قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين» إذن، فأساس أول معصية للخالق هو المقارنة. ومثال آخر تعلمناه من قصة أول جريمة في الأرض واضح في قول الله تعالى «واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين»، فقتل قابيل أخاه هابيل بسبب المقارنة. إذن فالمقارنة أساس الكبر والحسد والحقد والغيرة، وعكس المقارنة تماما تكون السعادة والرضا والراحة النفسية فقد قيل قديما «المرء سعيد ما لم يقارن».

قفلة:

لنتأمل قول الله تعالى «لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين».

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

أولى العبر

إن أول ذكر لنبي في القرآن الكريم من حيث تسلسل النزول لم يكن لأبي البشر آدم، ولا لأبي الأنبياء إبراهيم، ولم يكن لأي من أولي العزم من الرسل، عليهم السلام جميعا، بل كان لصاحب الحوت يونس بن متى عليه السلام. والآية التي نزلت في ذكره من سورة القلم «فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادىٰ وهو مكظوم»، وفيها أمر للرسول – صلى الله عليه وسلم – بعدم القيام بما قام به نبي الله يونس، عليه السلام. فيذكر المفسرون أنه بسبب يأسه من دعوة قومه غادر نينوى، وكان مصير ذلك اليأس والإحباط أن التهمه الحوت، لذلك كان دعاؤه «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، ففي هذا الدعاء إقرار بالذنب الذي فيه ظلم للنفس. ويستنتج الكثير من هذا الأمر الرباني المبكر أن أولى العبر المستفادة من قصص الأنبياء السابقين نبذ روح اليأس، والإحباط، والدعوة إلى الإيجابية التي هي قيمة أصيلة راسخة في الإسلام.

والإيجابية هي حالة تفاعل وعمل وعطاء وتفاؤل، وهي عكس التشاؤم والبؤس والانهزام. وبما أن لنا في رسولنا – صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، نتذكر كثيرا من مواقفه الإيجابية التي مر بها، ومن أعظمها ما مر به في غزوة الخندق، حين تكالب المشركون واليهود على المسلمين في المدينة، وفي هذه المحنة العظيمة بشرهم – عليه الصلاة والسلام – بنصر قريب على كسرى وفتح بلاد فارس. بهذه الروح الإيجابية صبر المسلمون إلى أن انتصروا على هذا التكتل الكبير، وتخطوا كل العقبات والمصائب التي مروا بها.

الروح الإيجابية روح سائدة في سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم، وسير بقية العظماء الذين غيروا التاريخ، لذلك نحتاج إلى نشر الإيجابية وتوعية الأجيال الناشئة بأهميتها على الفرد وعلى المجتمع. فعلى صعيد الفردي للإيجابية مردود صحي ونفسي – كما أشار كثير من الدراسات الحديثة، فالشخص الإيجابي لا يعاني الضغوط النفسية والتوترات العصبية كما يعانيها الشخص السلبي، وكذلك صحة وسلامة القلب لها علاقة طردية بالإيجابية. وأما على صعيد المجتمع فالتغيير والتطوير لا يأتي من سلبي يثبط الهمم وينشر الإحباط، بل يأتي من إيجابي يعمل فينجز. وفي مجتمعنا – ولله الحمد- إيجابيون كثر ودورهم ملموس، وكما يقال «إذا خليت خربت»، لذلك علينا جميعا أن نشيد بهم وننضم إليهم.

قفلة:

يقول الله تعالى في سورة هود»وما كان ربك ليهلك القرىٰ بظلم وأهلها مصلحون»، واختار الله كلمة مصلحون، ولم يقل صالحون. دعوة لتأمل هذه الكلمة، فهل يوجد مصلح غير إيجابي؟

نشرت المقالة في صحيفة مكة