حلطمة محبط

شعور غريب يراودني هذه الأيام. شعور شكنني في معتقداتي وجعلني أراجع قناعاتي. شعور إحباط لم أشعره من قبل، وأرجو الله ألا يطول. لعل هذا الشعور ناتج مما نعيش هذه الفترة من التحولات والصراعات والتخبطات والأزمات، والتي نسأل الله فيها دائما السلامة.

عشت عمري كله معتقدا أن الأزمات مدعاة لتوحيد صفوفنا وسببا لتقوية لحمتنا وفيها نسعى للدفاع عن بعضنا، إلا أن ما يحدث هذه الأيام من تفتيت أواصر هذه اللحمة وصراعات لا منطق فيها شككني في أن ما ربينا عليه من ثوابت مشتركة، وما حفظنا من قصائد وأشعار الأخوة والوحدة ما هو إلا وهم وخيال تمناه بعضنا فأنشدناها بعواطفنا جاهلين حقيقتنا. فللأسف تجاهلنا الكثير الذي يجمعنا وركزنا على القليل الذي يفرقنا. فيا بؤس حالنا ويا تفاهة فرقتنا.

كما أن في هذا الكم الهائل من التغيرات والتحولات تختلف بعض وجهات النظر وتكثر فيها الآراء، وهذا ما ظننته طبيعيا وصحيا، ولكن ما يحدث من تسفيه وتحقير للآراء المختلفة أمر صدمني وجعلني أتساءل: هل منظومة الأخلاق التي علمني إياها والدي في صغري قضى عليها الزمن وأصبحت من الماضي المزيف؟ وهل أصبح اختلاف الرأي خيانة؟ وهل أصبح السباب والألفاظ النابية التي تتداول في القنوات الرسمية وغير الرسمية هو الكلام الدارج في الأوساط الاجتماعية؟ ألم تكن تسمى سابقا بكلام الشوارع؟ أفلا يحبط من تتغير عليه هذه الثوابت والمفاهيم؟

أما المفكرون وأصحاب الرأي، فلقد عشت حياتي أقتدي بهم لما يملكون من قوة في الحجة وأدب في الطرح ومبادئ ثابتة لا تتغير، وفوق هذا كله تقبلهم للآخرين، ولكن الآن لا أعلم هل ولى المفكرون؟ أم إني تخيلت أنهم مفكرون أصلا؟ أصبحت حججهم التخوين والتخويف والتشكيك، وأما المبادئ التي كانت ثابتة فقد أصبحت متناقضة ومتعارضة، وكأنهم أشخاص استبدلوا بأشخاص آخرين، ليست فقط قناعات تغيرت مع الزمن. فهل أحزن عليهم، أم على نفسي التي ظنت أنهم مفكرون وأصحاب رأي؟

عزيزي القارئ، أعتذر عن القسوة في الطرح وربما المبالغة في شرح الواقع والجهل في التعميم. أعتذر لأني لا أعلم إن كانت هذه الحالة موقتة لوضع نفسي أمر فيه، أم إنه واقع للتو أستوعبه وعلي التعايش معه. أعتذر لأني ولأول مرة لم أبحث عن الفائدة المرجوة من مقالي هذا. كل ما في الأمر أني تركت قلمي يسير ويكتب من غير قيود فأنتج هذه الحلطمة دون تفكير ودون مراجعة. جعلته يعبر عن حالة، وما الكتابة إلا انعكاس لحالة نفسية الكاتب.

قفلة:

رغم ما ينتابني من إحباط إلا أن ما يبقيني حيا ومتماسكا هو أن مدبر هذا الكون وخالقه هو الله سبحانه وتعالى، وإيماني بأن ما نعيش من صراع ما هو إلا ابتلاء منه ليميز الخبيث من الطيب. وأرجو الله أن يكون الطيب هو السائد وهم الأغلبية الصامتة.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

تشكيل السائد

يثير اهتمامي تصرف البشر في مجتمع ما وأحاول أن أفهم ما هي الأسباب التي توحد بعض المظاهر والتصرفات لدى المجتمع، وكيف تتغير من جيل إلى آخر. فمثلا مظاهر اللباس في السعودية، وهو أسهل الأمور الملاحظة، تغيرت بشكل سريع، فلو شاهدنا صور الرجال السعوديين في الثمانينات الميلادية نرى الشنب الثقيل والثياب والأشمغة هي السائدة، وفي المقابل لو نظرنا إلى سائد اليوم، فالأمر تغير بشكل رهيب، والتغير هنا ليس تغيرا في معتقد بقدر ما هو تغير المظهر السائد والقبول بعادات جديدة من اللباس. وهذا يعد جزءا بسيطا من متغيرات كثيرة وكبيرة في المجتمع من مناسبات الأعراس، وابتعاث الدراسة، وسهولة السفر للسياحة وكثرة الذهاب إلى المطاعم وغيرها. هذه الأمور دعتني إلى أن أتساءل: من يؤسس العادات في المجتمع؟

إن الإنسان في سلوكه وتصرفاته – كأي كائن حي – يتأثر بالعدوى، والتأثير لا يحتاج إلى منطق أو تفسير عقلاني. والأمثلة التي تؤيد هذه النظرية كثيرة، ولكن لعلي أعرج على مثال استنكرته قبل أيام وهو نظرة أهل الفن لأعمال الرسام التشكيلي الهولندي فان جوخ التي كانت معدومة القيمة في حياته، ولكن بعد انتحاره أصبحت من أهم وأغلى الأعمال في العالم. فكيف تحول فن عديم القيمة إلى فن يقيم بملايين ويتلهف عليه البشر، إلا من خلال العدوى اللاعقلانية التي يتأثر بها الجمهور تقليدا لبعض النقاد. فأثر العدوى ليس فقط محصورا في الملبس والسلوك بل حتى في الذوق والآراء.

مهما كان الإنسان مستقلا وصاحب رأي إلا أنه يتأثر بمن حوله وتقوده عاطفته إذا ما كان ضمن جمهور أو مجتمع أو بلد، ويمكن قياس هذا التأثير وفهمه بما يسمى بالربيع العربي، ففي بداية عام 2011 لم يحتج الناس في دول عربية إلا لإعلام يهيج فكرة ثورية تبناها بعض من الجمهور العاطفي فانضم لها الملايين. والغريب أنها بدأت في دولة ثم انتقلت إلى دول مجاورة. والمحرك الأهم لهذه الثورات هي العدوى اللاعقلانية.

وقد فسر هذه الظواهر مؤسس «علم نفسية الجماهير» الفرنسي جوستاف لوبون بقوله «عندما يكون الفرد معزولا ربما يكون إنسانا مثقفا متعقلا، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقودا بغريزته وبالتالي همجيا. وهو عندئذ يتصف بعفوية الكائنات البدائية وعنفها وحماستها وبطولاتها أيضا».

إن هذه الأمثلة البسيطة وغيرها مما نشاهد بشكل مستمر توضح لنا كيف أن تصرف البشر وعاداتهم وحتى ذوقهم يتأثر بالعدوى. ولكن من يمتلك هذه القوة الهائلة في نشر العدوى؟ يملكها كما وضحها لوبون في كتابة «سيكولوجية الجماهير» من يمتلك إحدى الهيبتين: الهيبة المكتسبة وهي هيبة تكتسب بالمنصب والمال، أو الهيبة الشخصية وهي الملكة التي لدى بعض القادة الكبار في سحر الناس بكلماتهم وحضورهم وإطلالاتهم، إنها الهيبة المبنية على الكاريزما التي يمكن لمن يملكها أن يطوع جمهوره فيما يرى بأقل جهد وبلا منطق يسنده.

وبما أن العالم الواسع أصبح صغيرا بفضل وسائل الاتصال التي أصبحت في متناول الأيدي، فلا غرابة في التغييرات السريعة في مجتمعنا، وتأثر الكثير من الصغار بمن يملك الكاريزما من بيئة غير بيئتنا. لذلك فإننا مهما حصنا أنفسنا بمناهج ونصائح وتحذيرات، إن لم يكن الوالدان مؤثرين، والمعلم قدوة محبوبا، وإمام المسجد مفوها، والإعلام هادفا، فلا يمكن أن يكون لنا أثر في تشكيل عادات وسلوك الأجيال القادمة، فالتغيير بالعدوى لا بالمنطق والحجة.

قفلة:

فهم العرب قديما أثر العدوى في تشكيل الشخصية فقالوا «قل لي من تخالل أقل لك من أنت».

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

السعادة كما فهمتها

شاهدت فيلما قبل أكثر من 15 سنة، وشدني مشهد بسيط لا يزال راسخا في عقلي إلى هذه اللحظة. المشهد كان في فصل دراسي وتسأل المعلمة طلابها من المرحلة الابتدائية عن صفة يتمنى الطالب أن تكون فيه. فيجيب الطلاب بصفات كالجرأة، والشجاعة، والثقة بالنفس، والقدرة على جني المال، وغيرها من الإجابات المختلفة. ما رسخ هذا المشهد في ذاكرتي هو السؤال نفسه، فما زلت أسأل نفسي عن الصفة التي أتمنى أن تكون فيَّ. ومع مرور الوقت أتعمق أكثر في هذا السؤال إلى أن سألت نفسي عن الغاية الأخيرة من تملك أي صفة. نختلف في الصفات التي نتمناها جميعا إلا أني أعتقد أننا نشترك في نفس الغاية؛ ألا وهي السعادة في هذه الحياة الدنيا. وللوصول إلى السعادة الدنيوية، قرأت كثيرا، وشاهدت أكثر، وقضيت وقتا طويلا لأستنتج الوصفة السحرية للسعادة، ووصلت إلى أن السعادة تكمن في أربع قواعد:

القاعدة الأولى والأساسية محلها الجانب الروحي. فلا يمكن أن تتحقق السعادة إلا بإيمان راسخ عن الوجود وما بعد الوجود. فكل ما ضعف إيمان المرء وزاد شكه زاد شقاؤه وقلت سعادته. والإيمان هنا لا يتطلب أن يكون إيمانا صحيحا، المهم أن ما يعتنقه الإنسان من قناعات وعقيدة تكون راسخة وقوية. فالسعادة التي أتحدث عنها هي سعادة دنيوية يمكن لغير المسلم الوصول إليها.

صحيح أن طلب السعادة أمر قد يبدو فيه حب للذات وأنانية، إلا أنه لن يتحقق إلا بالتضحية والإيثار. فالقاعدة الثانية من قواعد السعادة مرتبطة بالعطاء ومساعدة الآخرين وإسعادهم. فقيل قديما «أسعد تسعد»، وهذه حقيقة وجدتها عند أمي التي تغمرها السعادة كلما أعطت وتشع في محياها الابتسامة كلما ساعدت. والعطاء هنا ليس مرتبطا بالعطاء المادي فقط، إنما بالعطاء المعنوي والروحي والجسدي. فكثير من الدراسات التي قرأت عنها تؤكد أنه لا المال ولا الصحة ولا المكانة الاجتماعية مربوطة بالسعادة، ولكن علاقاتك مع الآخرين ومقدار عطائك لمن حولك سبب من أسباب السعادة الرئيسة، إذن فالعلاقة بين السعادة والعطاء علاقة طردية.

أما القاعدة الثالثة فهي وجود هدف في الحياة، وهذا الهدف يجب ألا يكون هدفا شخصيا كتحقيق شهوات دنيوية من شهرة ومال ومكانة اجتماعية، ولكن الهدف يجب يكون في تنمية المجتمع والوطن أو البشرية بشكل عام، فالمال والشهرة لا يجب أن يكونا غايات بذاتها وإنما وسائل لتحقيق أهداف أسمى. خلال زيارته لمقر ناسا، سأل الرئيس الأمريكي جون كنيدي عامل النظافة عما يقوم به فأجابه العامل: «سيدي الرئيس، أنا أساهم في وصول الإنسان إلى القمر»، هذا الشعور بأهمية ما تقوم به للعالم وللمجتمع، وأن وجودك له هدف كبير كاف أن يحول حياتك من حياة عادية روتينية إلى حياة سعيدة هادفة.

والقاعدة الأخيرة والمهمة لتحقيق السعادة هي خلو القلب من الحقد والكراهية والحسد وأن يكون القلب مستوعبا الاختلافات التي هي من أسباب الوجود، فعلينا جميعا تقبلها والعيش معها لنظفر بالسعادة.

وإن القلب الذي يكره لن يذوق طعم السعادة ولن يهنأ بحياته، فالكره يؤذي الكاره ولا يؤثر على المكروه. ولهذا ندعو الله بسلامة القلب وطهارته فهي من أسباب السعادة الدنيوية ونجاة من النار في الآخرة. ألم يقل رب العالمين في كتابه عن عذاب يوم القيامة «يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم».

قفلة:

هي السعادة نطلبها، وربما نعرف طريقها، لكن هل بإمكاننا تهذيب أنفسنا لننال سعادتي الدنيا والآخرة؟

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

ريتويت.. لايك.. شير.. أي شيء!

عزيزي القارئ، قبل البدء في المقال، أود أن أعتذر عن السلبية والمبالغة في الطرح، والتي أعتقد أنها ضرورية لإيضاح الفكرة التي أريد إيصالها. فالتجربة التي أعيشها حاليا جعلتني أتساءل هل ما أشعر به شاذ؟ أم إن هناك من يشاركني هذا الشعور؟ أتحدث عن شعور بدأ يتشكل مع بداية ثورة التواصل الاجتماعي التي قسمت حياتي إلى حياتين؛ حياة حقيقية وحياة افتراضية.

نبدأ بتويتر، فمنذ دخولي هذه المنصة التي تمتاز بالإيجاز وإتاحة المساحة للجميع لإبداء آرائهم وأنا مندهش من تصرفات الكثير من المغردين. فجمهور منهم يدعون أنهم حماة الدين وحراس الفضيلة يتهمون كل رأي مخالف لآرائهم بالتغريب والفسوق والانحلال وغيرها من الألقاب الإقصائية. وجمهور آخر نقيض للأول تماما يدعون أنهم مع التعددية وحرية الآراء، ولكن إذا كان مجال النقاش في أمور الدين تراهم يضيقون ذرعا ويصفونهم بالتطرف والإرهاب وبأنهم عديمو الوطنية لا لشيء إلا لأنهم يطرحون رأيا مخالفا. وجمهور آخر يتخفى بأسماء مستعارة يتفنن في الردود بأشنع الألفاظ وأقبح الصفات وأدنى العبارات لكل شخصية معروفة. هذا كله يحدث في هذه الحياة الافتراضية، ولكن حين ألتفت إلى حياتي الحقيقية لا أرى هؤلاء الأشخاص، ولم يحدث أن سمعت في مجالسنا من يشكك في دين الآخر ولا من يشكك في وطنيته. فهل هذا يعني أن التطرف اليميني واليساري واقع؟ أم خيال؟ وهل البذاءة من عادتنا؟ أم إن تويتر لا يعتبر مرآة للواقع؟

ننتقل إلى الانستغرام والسناب تشات، لنشاهد صور تجمع الأصدقاء بابتسامات عريضة، وتعليقات على هذه الصور تأكد مدى الترابط والسعادة التي تجمعهم. فتغريني هذه الصور لأذهب إلى مجالسهم، ولكن للأسف حين أذهب أرى أجسادا بلا أرواح، فلا ابتسامة مرسومة، ولا أحاديث تسمع، ولا موضوع يطرح. فقط هي الأجساد في الكراسي مشغولة بأجهزة صغيرة محمولة بين أيديهم.

أجساد فضلت التوغل في العالم الافتراضي على العيش في الحياة الحقيقية. وفي نفس هذا العالم الافتراضي نرى صورا أخرى لمطاعم مميزة ووجبات لذيذة، فتشتهيها لتذهب إلى المحل المأخوذ منه الصور لترى أناسا بجوالاتهم يصورون الأطعمة بأكثر من زاويا ثم يأكلون لقمة، أو يرتشفون رشفة، ليترك أكثره لسلة المهملات. فأي إدمان نعيش؟ هل فضلنا حياتنا الافتراضية على الحقيقية؟

ننتقل إلى الواتس اب، هذه الوسيلة التي تجمعنا مع أهلنا وزملائنا وأصدقائنا. الواتس اب الذي سهل علينا طرق التواصل فأصبحنا نهنئ الأحباب برسالة منسوخة، ونعزي الغالين بنص لم نقرأه ولا يقرؤه المتلقي. أصبحنا لا نحرص على اللقاءات ولا المكالمات، فالرسالة تكفي. وفي هذه الوسيلة، نرسل حكما ونصائح للآخرين لتشعرنا أننا نتبعها بمجرد إرسالها. وفي هذه الوسيلة، نعيد إرسال الأخبار الملفقة، ووصفات العلاج المدمرة، والفتاوى المكذوبة دون تحر للدقة، لأننا استقبلناها من خلال «الواتس اب» وهذا بالنسبة لنا دليل كاف على موثوقية المعلومة.

نعم لهذه الوسائل مميزات وإيجابيات فهي قربت البعيد ووسعت المدارك وزادتنا ثقافة، ولكنها أخذت حيزا كبيرا من وقتنا، فطغت على حياتنا الحقيقية. فهل نحن نستفيد من إيجابيات هذه الوسائل أكثر؟ أم إن سلبياتها لها الأثر الأكبر في حياتنا؟ وهل تصبح شخصياتنا في هذه الوسائل واقعية؟ أم إن شخصياتنا مزيفة وهشة؟

قفلة:

حين يزورنا ضيف عنده مئات الآلاف من المتابعين، هل يستقبل كاستقبال شخص لا يملك حسابا في هذه الوسائل؟ وهل سعادة بعضنا أصبحت مربوطة بعدد «اللايكات» في الصور التي نشاركها في الانستغرام أكثر من السعادة الناتجة من استرجاع الذكرى المربوطة بهذه الصور؟ وهل أصبح عدد الريتويت هدفا أكثر من قول ما يمليه ضميرنا في تويتر؟

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

ألا ليت المشيب يدوم

يطمح كثير من الشباب إلى أن تعطى لهم الفرصة والمجال لصناعة القرار وتولي زمام الأمور لما لديهم من طاقات كبيرة ودراية حديثة في مجالات شتى. فهذا عصر متسارع وكثير المتغيرات يتطلب شبابا يفهمون هذا التسارع، وقادرين على التأقلم معه، ويتميزون بالنشاط والهمة العالية، وهذا ما يفقده كثير من أصحاب القرار والتنفيذيين من الكبار. كان هذا إيماني إلى أن راجعت نفسي وسألتها: هل فعلا نستطيع قيادة مستقبلنا بدلا ممن يتولون أمورنا من الكبار؟ إذا كان الجواب لا، فماذا ينقصنا ويميزهم؟

إن من نعم الله علي أني وهبت أبا اختلف في طريقة تربيته لأبنائه فلم يكن الأب المتسلط، بل على العكس تماما فقد كان يجالسنا أنا وإخوتي كأصدقاء، ويسمع لنا ويسمح لنا بالأخذ والرد على آرائه. ولم يكتف -رحمه الله- بالجلوس معنا لوحده من جيله، بل كان يحرص على مرافقتنا له في مجالسه وندواته وحواراته.
ومما كان يصر عليه هو حضورنا للمجلس الأسبوعي في منزلنا «جلسة السبتية» والذي يحضره علماء وأدباء وأساتذة الجامعات وتربويون ومثقفون من جميع أنحاء العالم العربي. بدأت السبتية قبل أكثر من اثنين وعشرين عاما، ورغم أن المواضيع لم تكن ثابتة، فمنها التربوي والأدبي والسياسي وغيرها من أحداث الساعة، إلا أن الثوابت في تلك الجلسات كانت العمق في التحاليل، والرقي في أسلوب الحوار، وتقبل الآراء ووجهات النظر المختلفة بهدوء. ولأني بدأت حضور هذه الجلسات وأنا في مرحلة الصبا، كانت بالنسبة لي صعبة الفهم ومملة فكنت أحضرها مكرها وملبيا رغبة والدي، ولكن ما إن كبرت حتى عرفت قيمتها فأدركت أنها منهج تعليمي لم أحصل عليه في الجامعة فلزمتها راغبا لها مشتاقا لروادها مستمتعا بمواضيعها.

ذكرت هذه النبذة عن جلسة السبتية لأنها سبب في إدراكي لجواب سؤالي في مقدمة هذه المقالة. فمن بعد مجالسة الكبار في السبتية وغيرها، أيقنت أنهم يملكون خبرات طويلة وحكمة عميقة ولديهم القدرة على تغليب العقل على العاطفة فتراهم يتروون في إصدار آرائهم، ويتحكمون في ردود أفعالهم، وهذا ما لا يمكنني تعلمه إلا بخوض ما خاضوه من التجارب. لذلك أستطيع أن أقول إنه مهما كانت طموحات الشباب عالية وهمتهم قوية إلا أن للكبار دورا لا يمكننا الاستغناء عنه. فالخبرة والحكمة والاتزان أمور ضرورية لقيادة ورسم مستقبلنا، ويندر أن نجدها في الشباب المندفع.

ومن هذا، أيقنت يقينا لا شك فيه أن التعاون والمشاركة بين الأجيال سيؤتي ثمارا أكثر ونتائج ملموسة أعلى وأخطاء أقل. وتأكيدا لهذه النتيجة الشخصية، لو قرأنا تاريخ أي أمة متقدمة وعظيمة نرى أن توزيع الأدوار بين الأجيال من أهم ركائز ذلك التقدم. فحفظ الله شيوخنا، وبارك لنا في شبابنا، وسدد الله خطى من تولى أمرنا.

قفلة:

يقول العليم القدير في كتابه: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ»، وهذا يؤكد أن العلم يتزايد مع تقدم العمر حتى يصل الإنسان إلى مرحلة الهرم حيث لا يعلم بعد علم شيئا. فهل يعقل أن نبكر مرحلة الهرم ونستغني عمن زاد علمه مع عمره؟!

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

نجوم ريادة أعمال حقيقيون

مفردة ريادة الأعمال لدى الشباب السعودي أصبحت دارجة ولدى الكثير منهم أصبحت غاية. فإن تكن غاية فهذا بلا شك أمر إيجابي وأتمنى أن يحققوا غاياتهم ليصبح لدينا شباب يخلقون الوظائف لا يشغلونها فقط. أنا هنا لست بصدد التحدث عن هذه المفردة فلست مختصا بذلك، ولكني سأتحدث عنها كظاهرة اجتماعية. الذي شجعني لكتابة هذا المقال، هو مشاهدتي للقاء مع الريادي فيصل الخميسي في برنامج من الصفر مع المقدم المميز مفيد النويصر.

قصة كفاح فيصل ملهمة وتستحق أن تنشر، والعجيب فيها أنني كنت أتابع فيصل في تويتر لسنوات، ولكن كغيري لم أكن أعرف عنه إلا القليل، فلم يكن يتحدث عن قصص نجاحه بل كل ما يكتبه في تويتر آراء حول مواضيع عامة. وهذا يذكرني بقصص مشابهة في وطني لم ينشغل أبطالها بالظهور ولكن كفيصل ركزوا على النجاح فهو غايتهم الأهم لا الظهور الإعلامي. ومن القصص المشابهة، قصة رياديي الأعمال الثلاثة رائد وعبدالله وأحمد، وهي قصة أعتقد أني قريب من أحداثها ومتابع لتطوراتها، ولكن يجهلها الغالبية.

بعد تخرجهم في الجامعة، عمل الثلاثة في قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات كموظفين لمدة تزيد على 7 أعوام، وأثناء عملهم كموظفين، أنشأ اثنان منهم منتجا في ملحق بيت، أما الثالث فآمن بفكرتهما ليترك عمله وينضم لهما ليتحول المنتج إلى شركة أسست عام 2008 توظف عشرات السعوديين بمبيعات تفوق عشرات الملايين.

أتحدث عن شباب آمنوا بأن لديهم القدرة والكفاءة لا أن ينافسوا في السوق المحلي فقط، بل هدفهم تقديم حلول تقنية للعالم فحققوا حلمهم بمنافسة كبرى الشركات العالمية التي تقدر بمليارات الدولارات. هذه الشركة السعودية طلبت ودها شركات استثمارية عالمية، ولكن طموحهم يفوق ما عرض عليهم. عرفت بعض من المؤسسين وشاهدت التعب والجهد المبذول في البدايات، ولاحظت التطور الملحوظ والنجاحات التي واكبت هذه الشركة. وسعيد جدا بأن هذا النجاح الهائل لشركة كل موظفيها من الشباب السعودي.

ذكرت هذه القصة للتوضيح أن هناك شبابا منجزا وملهما، وعلى الإعلام أن يبحث عنهم ويستخرج قصصهم وينشرها للاستفادة منها، وإلهام الآخرين بها، وألا ينتظر من رائد الأعمال الإعلان عن نفسه، فرائد الأعمال الحقيقي هدفه النجاح لا الشهرة. أقول ذلك لأنه وللأسف استغل البعض ظاهرة ريادة الأعمال ليبحث عن نجاحات ولو كانت وهمية ليقدم نفسه للناس كقصة نجاح، ثم يساعدهم الإعلام ويعرضهم كقصص ملهمة ركيكة لدرجة أن «الناجحين» أصبحوا أكثر شهرة من منتجاتهم وشركاتهم. وما زال يتكرر ظهور هؤلاء «الناجحين» إلى أن أصبحوا من نجوم الإعلام الجديد بدلا من نجوم ريادة الأعمال.

قفلة:

أقول لمفيد النويصر شكرا لتقديمك نماذج ملهمة في رمضان، وأقول لفيصل الخميسي كثر الله من أمثالك، وأقول لمن تابع «من الصفر» لا يهم من أين يبدأ المرء، بقدر ما يهم إلى أين يصل.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

عش فضوليًا

يولد الطفل متسائلا، فضوليا ومحبا للمعرفة. فنسمع من أبنائنا أسئلة كثيرة مثل «بابا ليش الشارع لونه أسود؟» و»ماما ليش البيبي يبكي؟» و»أستاذ إيش يعني كلمة الخناس؟».. وغيرها من الأسئلة التي قد لا نعرف الإجابة عن معظمها.

وهذه الفطرة مهمة جدا ليبني الطفل قاعدة لأفكاره، وينمي مهاراته، ويستوعب الكلمات، ويدرك ما لا يفهمه. ومع تقدم العمر تتلاشى هذه الخصلة فنستنكر كثرة الأسئلة ونخفف من تساؤلاتنا.

لكن هل هذا أمر صحي؟

خاطب الله من خلال كتابه المبين عقل المسلم البالغ وكان ضمن ما قاله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة «أفرأيتم ما تمنون»، «أفرأيتم ما تحرثون»، «أفرأيتم الماء الذي تشربون»، «أفرأيتم النار التي تورون».. وغيرها من الأسئلة التي أعتقد أنها رسالة من الله تعالى للمسلم، يحثه فيها على التساؤل وإشغال العقل الذي ميز الإنسان به عن سائر المخلوقات.

لعل مما يؤكد ذلك اتخاذ الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام خليلا. فمما تميز به أبو الأنبياء أنه قبل إيمانه ونبوته عاش متسائلا باحثا عن الحقيقة، إلى أن أرشده الله تعالى إلى خالقه وخالق الآفلين: الكوكب والقمر والشمس. ففي قصته عبر كثيرة، أرى أن من أهمها أن التساؤل فتيلة العلم والإيمان.

شخصيا، متأكد أننا مهما بلغنا من العلم والإدراك إلا أن جهلنا أكبر من علمنا، ألم يقل الله تعالى «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا»؟ لذلك سأحرص على أن أكون متسائلا، وباحثا عن الحقائق والمعلومات، عادية كانت أم مهمة.

المهم أن تبقى خصلة التساؤل خصبة.

إضافة إلى أنها فتيلة العلم والإيمان، فالتساؤل يقود الإنسان إلى السعادة. فمع كثرة التساؤل، تصبح الحياة مليئة بالاكتشافات والأفكار الجديدة التي تعزز فهمها وإدراك جمالها.

لعلي أستشهد بمقولتين لعالمين من علماء هذه البسيطة اتفقا على أهمية التساؤل رغم اختلاف الأزمنة وتخصصاتهما، أحدهما إسلامي صحابي والآخر فيزيائي معاصر.

سئل حبر هذه الأمة، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبدالله بن عباس «أنى أحببت هذا العلم؟» فأجاب «لسانا سؤولا وقلبا عقولا».

أما عبقري هذا الزمان ألبرت آينشتاين فيقول «الشيء المهم هو ألا نتوقف عن الأسئلة، وألا نفقد قدسية الفضول».

قفلة:

مقولة صينية «قد يكون السائل عند سؤاله مغفلا لخمس دقائق، ولكن الذي لا يسأل سيحيا مدى حياته مغفلا».

نشرت المقالة في صحيفة مكة