المراعاة تعني الذكاء

يطمح كل منا أن يتحلى بمكارم الأخلاق، فيراجع الإنسان نفسه، ويرى ما به من قصور وخلل، فيسعى لإصلاح ذاته والتطبع بالأخلاق الحميدة. ومما يفعله الإنسان في هذا الشأن هو قراءة سير العظماء والاقتداء بمن سبقه من الأخيار، ثم يبحث عن أسباب حفرت أسماء هؤلاء البارزين في صفحات التاريخ، فتخليد الأسماء لا يتطلب قدرات عظيمة فحسب بل يقتضي الاتسام بأخلاق طاهرة رفيعة. ومن هذه الأخلاق التي نتهاون فيها، رغم سهولة التطبع بها إلى أن تصبح طبعا فينا، خلق مراعاة الخواطر.

سأذكر قصة قرأناها في سيرة سيد الخلق العظيم محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لعلها توحي عمق هذا الخلق الرفيع الذي لا يتحلى به إلا العظماء الكرام. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته عن سبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب، فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال المصطفى الكريم: «أنت منهم» ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال صاحب الخلق العظيم: «سبقك بها عكاشة»، متلطفا بالجواب مع هذا السائل، ولم يقل له ليس لك من الأعمال ما تبلغ به مبلغ السبعين ألفا. وهذا مثال يسير من كمال أدب وعظم خلق الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم. فالفظاظة والخشونة واختيار الكلمات السيئة من المنفرات التي لا ندركها في حياتنا مع الآخرين، ويؤكد ذلك ربنا وخالقنا في كتابه المبين فقال عز من قائل «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك».

إني حين أراجع نفسي وتعاملاتي مع الآخرين أراني بعضا من الأحيان ناصحا للمذنب، وموجها للمقصر، ومصححا للمخطئ، وأفعل ذلك وأنا معتقد أني دال للخير ومحب لهم. ولكن هل هذا الشعور يصل لمن أتعامل معهم؟ وهل يتقبلون نصحي وإن كان صحيحا؟

هذه المراجعات جعلتني أتدارك هذا الخلق الذي قد أغفل عنه في تعاملاتي. فمما غفلته أنه من المنازل العظيمة لمن سبقونا وممن نتعلم منهم من الأخيار أنهم يراعون من يخاطبون، وينزلون الناس منازلهم، ويعرفون كيف يختارون الكلمة. فمخاطبة البسيط والضعيف لها أساليب خاصة تجبر فيها خواطرهم، وتطيب فيها نفوسهم، فالكلمة الطيبة لأي جهد يقومون به له درجة عظيمة في نفوسهم. وأما معلموك ووالداك فلهم أساليب مختلفة في التعامل معهم، فمهما حصل منهم ومهما بدر منا يجب علينا أن نعلي مكانتهم ونرفع قدرهم. وكذلك المسؤول والوجيه فلهما طريق أخرى ليستمعا ويتقبلا فيه رسالتنا ووجهات نظرنا. ولا يتحلى بهذا الخلق إلا الرفيع صاحب المكانة العالية، وممن فهموا النفوس وتراهم أكثر الناس ذكاء اجتماعيا.

قفلة:

إن من أسماء الله سبحانه وتعالى «الجبار» ومن معاني هذا الاسم أنه يجبر الضعيف، ويجبر الكسير، ويجبر المنكسرة قلوبهم.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

اعمل شكرا

يراجع الإنسان نفسه ويتأمل في أحواله بين فينة وأخرى ليرى ما أنجز وما عمل وقدم. ولعل نهاية العام الميلادي مدعاة لهذه المراجعة. ففي هذه الأيام راجعت نفسي ودونت ما قمت به وما فشلت في إتمامه، وجدتني أخوض معركة الحياة محاولا أن أكون سببا في إصلاح أو تغيير وتطوير من خلال أسرتي وأصدقائي وعملي. ووجدتني كذلك أصارع لأترك أثرا من خلال ما أكتب في هذه الصحيفة أو في تويتر ومن خلال المناقشات مع من أجالسهم. باختصار، إن كل ما أقوم به هو أني أريد الأفضل لي ولأسرتي ولوطني، فأنجزت جزءا بسيطا مما أطمح، ولا يزال العمل مستمرا للمزيد من خلال الدوائر التي أنا فيها. رغم كل ذلك، اكتشفت -بعد التأمل- أني أخوض هذه المعركة بطريقة خاطئة وظالمة.

إن همي لحياة أفضل جعلني لا أستوعب الزحام الكبير من النعم التي أنا وأهلي ووطني فيها.

انتبهت أني مقصر في شكر الله على هذه النعم والتي قد تفنى لو لم ندركها ونشكر رازقنا عليها. فشكر الله عبادة وسبب في استمرار النعم وبقائها. ألا نستنتج من قصة سليمان عليه السلام بعد أن آتاه الله الملك والخير أن النعم تدوم بالشكر؟ وذلك حين قال كما ورد في القرآن الكريم «هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم». هذا من الجانب الديني أو الواجب الرباني تجاه النعم، أما من الجانب النفسي فلقد أيقنت أني لو أمضيت جزءا من يومي متأملا ومتلذذا بهذه النعم لكان أولى وأهم من سعيي الحثيث على التغيير والتحسين. لأن في تأمل النعم طاقة إيجابية ودافعا لبذل مزيد من الجهد والعطاء. إن الشعور الدائم بالنقص وأن نرى الأشياء بعين باحثة عن القصور هو شعور هدام، محبط، وقاتل للإنتاجية. لهذا السبب سأحاول أن أغير من حالي لأكون أكثر شكرا لله وأحرص على اكتشاف هذه النعم الموجودة بدلا من البحث عن المفقودة.

إن أولى خطوات شكر النعمة هي محاولة معرفتها، ولا يمكننا معرفتها كلها وحصرها من كثرها. فمهما نالنا من مصائب وأزمات، لا تزال النعم أكبر وأكثر من تلك المصائب. ولهذا إدراك هذه الحقيقة بحد ذاتها مدعاة للتفاؤل والسعادة والرضا.

فاللهم لك الحمد على ذلك. ومما يجب استيعابه كذلك أن دوام الحال من المحال، فلنستمتع بما نحن عليه من النعم ولا نكن من الساخطين. يقول الشاعر أبوالبقاء الرندي في رثائه للأندلس التي كانت نعمة على المسلمين قبل أن ينهزموا ويطردوا منها:

هي الأيام كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقي على أحدٍ
ولا يدوم على حال لها شان

إن مختصر ما آل إليه تأملي هو أن الدنيا الغالب فيها النعم والخير، فشكر الله هو المشعل في هذه الحياة وسبب للطموح والعمل لعالم أجمل.

قفلة:

الشكر عمل وليس قولا. ألم يقل ربنا عز وجل «اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور»؟

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

لهذا أحببت عمر

منذ أن وعينا هذه الدنيا ونحن نربى على حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتقرب لله عز وجل بحبهم، فعرفنا قصصهم، وحفظنا أقوالهم، وتدارسنا صفاتهم إلى أن سكن حبهم سويداء قلوبنا، وأصبحوا الرموز الذين نحاول الاقتداء بهم ما حيينا. رغم حبي لهم جميعا رضوان الله عليهم، وتعظيمي لما قاموا به من خدمة للإسلام ونصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الفاروق عمر بن الخطاب يظل الأميز بالنسبة لي، وإعجابي به كبير جدا لدرجة أنه أصبح أقرب للأسطورة من كونه رجلا تاريخيا إسلاميا. ولطالما سألت نفسي؛ لماذا عمر؟ وما سره الذي سحرني؟

إني حين أقرأ سيرته وأحلل شخصيته العظيمة، أرى أن المفتاح الثابت لهذه الشخصية وسبب تميزه هو إيمانه القوي، وغيرته الشديدة على الحق، فتراه لا يفتن بهذه الدنيا ولا تغريه عن نصرة الحق الذي يؤمن به. فهذه الشخصية نراها قبل إسلامه، فحربه على الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه كان منبعها إيمانه بمعتقد آبائه وأجداده وغيرته الشديدة لذلك الإيمان القوي، ولهذا السبب حين لاح له الحق المبين، آمن برسالة الإسلام مضحيا بعز القبيلة ومكانته بينهم، فتحولت الدعوة الإسلامية من دعوة سرية إلى جهرية.

ونرى كذلك هذه الشخصية الثابتة في العهد المدني، فحين عزم الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة على زعيم المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، أتاه عمر يرجوه عدم الصلاة عليه. وكان الدافع من هذا الرجاء غيرته على الحق الذي يؤمن به.

واستمرت هذه الميزة القوية في شخصية عمر في عهد خلافته، وهي واضحة في موقفه حين طلب من المسلمين التخفيف من المهور، فاعترضت امرأة من المسلمين وقالت: «يا عمر يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول: .. وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا» فقال عمر: «أصابت امرأة وأخطأ عمر»، وهنا يتضح أن غيرة عمر رضي الله عنه على الحق تجعله يضحي بمكانته وموقعه من أجل هذا الحق ولم تأخذه العزة بالإثم.

وحين نرى مسيرته مع الحياة بشكل عام، نرى أنه بدأ حياته راعيا بسيطا لا يعرفه أحد في مكة، حتى أصبح أميرا للمؤمنين في دولة توسعت فيها الفتوحات، وتحت تصرفه كنوز وثروات وأموال طائلة، فأمسى ليس بينه وبين الله أحد، إلا أن ذلك كله لم يفتنه، وعاش ناصرا للحق غيورا عليه. فشخصية بمثل عمر رضي الله عنه أصبحت تعد من وحي الخيال، فأين منا من غيرته على الحق تثنيه عن مطامعه الشخصية؟ وأين منا من يشارك المسلمين المجاعة فيحرم على نفسه السمن وهو أمير المؤمنين وخزائن الدولة بيده؟ أين منا من يسائل ابنه عن قميص جديد؟ أين منا من ينام تحت شجرة بعيدا عن العباد خاشيا رب العباد؟ أين منا من تقبل عليه الدنيا بكل ما فيها ويتركها زاهدا بها؟ آه ما أصعب تكرار عمر.

قفلة:

وصفت أم أبان بنت عتبة بن ربيعة عمر قائلة: «إنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، وكأنه ينظر إلى ربه بعينه».

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

لسنا يابانيين

إننا وبطابع حبنا للمقارنة دائما ما نقارن أنفسنا بالغرب والشرق على أنهما أفضل منا حالا وأصلح منا وضعا وأكثر منا تقدما. فنأتي بخبر وزير ياباني قدم استقالته بسبب خطأ في مؤسسته ونتغنى به، ونقول: ليت عندنا مثله فهذا سبب لتقدمهم، ثم نأتي بتاجر أمريكي يعرض ثروته لخدمة قضية معينة ونقول: ما أكرمهم لخدمة الإنسانية أين تجارنا من هذا الرجل الذي تحلى بخلق نحن أحق به منه. كل هذه المقارنات يراها البعض أنها جلد للذات، ولكن هل هي فعلا جلد للذات؟

إن من يجلد المسؤول العربي بمقارنته بالمسؤول الياباني ليس مسؤولا فلذلك هذا لم يكن جلدا للذات بقدر ما هو جلد للمسؤول العربي بشكل عام، والمتغني بالتاجر الغربي ما هو إلا ممتعض من التاجر العربي، فالانتقاد هنا ليس انتقادا للذات إنما هو انتقاد فئة من المجتمع لا ننتمي لها. إن هذه المقارنات التي نكثر من استخدامها جعلتني أفكر في نتائجها والهدف منها. هل مقارناتنا عادلة وصحيحة؟ وما هي الدوافع خلف هذه المقارنات التي تتصدر آراءنا ومقالاتنا في الصحف؟

يبدو لي أن قناعة كثير من الناس أن أي مسؤول في الخدمة العامة إما فاسد أو قليل الكفاءة ما لم يثبت العكس. فما إن يتول المسؤولية حتى نتصيد الأخطاء وإن حدث الخطأ، نطلب منه أن يكون كوريا أو يابانيا ليقدم استقالته. وفي الحقيقة، ننسى أننا أصلا لم نكن كوريين أو يابانيين في ظننا به وسعينا في إنجاحه. إن الخطأ وارد، ومن لم يخطئ فهو بالتأكيد لم يعمل. فالروح والقناعات التي نتبناها نحن المخدومين وأصحاب الرأي تحبط من يريد العمل فتراه دائما في خوف من الخطأ ومن ردات الفعل التي نقسو فيها، فيتجه إلى الركود بدلا من العمل. إننا في هذا السعي الحثيث عن البحث عن الأخطاء نهدف ونتمنى أن يعاقب المخطئ أو يعفى من مسؤوليته وكأنها غاية بحد ذاتها، وننسى أن الغاية أن نصحح الخطأ بدلا من معاقبة المخطئ.

أما نظرة الكثير منا للتاجر العربي فهي أنه جشع ومادي وأناني ومستغل لخيرات البلد لصالحه، إلا إن أثبت العكس وهذا ما يصعب إثباته. فمهما قدم للوطن وخدمة للمواطنين فهو يقدمه لمآرب أخرى غير حبه لوطنه. فترانا نسعد إن قرأنا خبر خسائر التاجر الفلاني، أو تغريم أحد رجال الأعمال، دون أن نعرف الأسباب وتفاصيل الأخبار. المهم أننا نسعد بالعقوبة وكأنها هي الغاية وننسى أن العقاب وجد كوسيلة للردع وليس غاية للتشفي.

إن مقارناتنا مع الغرب والشرق مقارنة من زاوية واحدة فقط، فتجدنا نقارن المسؤولين والتجار ولا نقارن العاملين وأصحاب الرأي. لذلك أرى أننا بدلا من جلد الآخرين من المجتمع ومقارنتهم بالآخرين، نبدأ بمراجعة النفس وتصويبها فـ «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».

علينا بحسن الظن بالآخرين لتسود الإنتاجية والثقة والتقدم، وعلينا بالابتعاد عن التشفي والشماتة فهما صفة غير محمودة، فلم ترد في سيرة نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم أنه تشفى من مشرك أو تشمت بعدو رغم ما عانى منهم، بل حتى إنه عفا عنهم بقولته المشهورة صلى الله عليه وسلم «اذهبوا فأنتم الطلقاء». فأين نحن من هذا الخلق العظيم؟

قفلة:

بما أننا نقارن أنفسنا باليابانيين، أنقل لكم هذا المثل الياباني اللطيف: «النجار السيئ دائما يلوم أدواته».

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

اليتيم والكويتية

إن قراءة القصص من الأساليب المحببة للقارئ، فمنها يستنبط الدروس ويتعرف على أحوال الآخرين وربطها بحاله. والقصة بشكل عام أسلوب قرآني كريم، فقد قال عز وجل عن كتابه في سورة يوسف «نحن نقص عليك أحسن القصص»، وكذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم باستخدام هذا الأسلوب مع الصحابة والمخالفين له فقال تعالى في سورة الأعراف «فاقصص القصص لعلهم يتفكرون»، ومن هذا المنطلق أحببت أن أنقل قصة بسيطة ولطيفة كما هي بدلا من سرد الدروس المستفادة، فالقارئ لديه القدرة على استنباطها أكثر من قدرتي على شرحها.

في إحدى الإجازات الصيفية التي قضيتها في الولايات المتحدة الأمريكية، ركبت أنا وأخواتي وقريبة لنا في سيارة أجرة يقودها رجل أمريكي من العرق الأبيض كبير في السن يتجاوز عمره الستين سنة. بعد تحركنا من موقعنا، أراه ينظر في المرآة للخلف حيث تجلس أخواتي وقريبتي وهو مبتسم. أطال النظر، وذلك يزعج الرجل العربي، فقلت له مستنكرا «ما الأمر؟ هل خلفنا سيارة تلاحقنا؟» وقصدت أن يوقف نظراته المزعجة، ولكنه ضحك وأشار إلى قريبتي «لا. ليست سيارة بل هذه الفتاة ذكرتني بابنتي». سألته مستغربا «ابنتك؟!» أجاب بهدوء الواثق «نعم. ابنتي من الكويت» لاحظ استنكاري، فشرح لي قصته فقال «أنا شخص عرفت الحياة وأنا في بيت للأيتام، لا أعرف أبواي ولم أعش حياة أسرية، وتعرفت على فتاة في ذاك البيت عانت اليتم مثلي، أحببتها وقررنا الزواج بشرط ألا ننجب أطفالا، ولكن نتبنى أكبر عدد من اليتامى الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم. وعشنا كذلك وتكفلنا بتسعة أطفال من مختلف بلاد العالم، من أفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية. كل طفل من دولة مختلفة، أما التي من الكويت فكانت أثناء غزو صدام للعراق، وكنت ممن شارك في الحرب مع الجيش الأمريكي، ووجدنا طفلة فقدت والديها في الحرب وتكفلت بتربيتها أنا وزوجتي فأصبحت ابنتي الآن، وهي التي تشبه الفتاة التي في الخلف». سألته «كيف الشعور وأنت تربي أطفالا لا يرتبطون بك بالدم؟ وكيف شعورهم تجاهك أنت وزوجتك؟»، قال «لا أعرف شعور الآباء تجاه أبنائهم ولكن بكل تأكيد ليسوا أكثر مني حبا لأطفالي التسعة، أحبهم أكثر من نفسي وهم جزء مني حتى لو لم يربطنا بهم دم، أما شعورهم فهم محبون لي ولأمهم وأوفياء معنا إلى أبعد درجة، فهم يزوروننا أكثر من زيارة أبناء الجيران لذويهم، حتى إن بعضهم لم يغادر المدينة التي نحن فيها سعيا لخدمتنا. إنهم جميعا يشعرون بالفضل تجاهنا ويقولون إننا أحببناهم باختيارنا وربيناهم طوعا، ليس كحب الآباء الحقيقيين لأبنائهم فحبهم مفروض عليهم بحكم رابط الدم وتربيتهم لأبنائهم تربية واجبة لا طوعا. أنا وزوجتي علمنا أبناءنا أحسن تعليم ووفرنا لهم بيتا آمنا وسعيدا، والآن أصبحوا موظفين ناجحين وأرباب بيوت سعداء ولديهم أبناء وبنات لم يشعروا باليتم الذي شعرنا به».

نزلت من السيارة وأنا منبهر مما سمعت، وذكرتها لكثير ممن عرفت وها أنذا أكتبها لكم لعلكم تجدون فيها ما يستحق القراءة.

قفلة:

يقول العملاق والأديب العربي نجيب محفوظ «وراء التضحية دائما إيمان قوي وليس مجرد اقتناع عقلي».

نشرت المقالة في صحيفة مكة

مجاني.. ولكنه ثمين

عملت في دولة غربية لمدة 3 سنوات وأثار اهتمامي الاختلافات العملية والاجتماعية الكبيرة عن وطننا العربي، فالغربيون بشكل عام لا يمتازون عنا بقدرات ذهنية أو جسمانية ولكن جل الاختلاف يكمن في الاهتمامات والأولويات.

لن أتطرق لتفاصيل هذه الاختلافات، ولكن شدني موضوع جوهري يختلفون فيه عنا. إن من أولويات المجتمع الغربي الذي عايشته التطوع، فكل من عملت معهم يخصصون على الأقل 100 ساعة في السنة للتطوع. وهذا التطوع مدعوم ومشجع من قبل المجتمع والشركات والإعلام والتعليم، فلا يهم فيم تتطوع وأي قضية تخدم، المهم أن تخصص وقتا للتطوع. ومن وسائل التشجيع عندهم أن الجامعات بشكل عام تفضل قبول المتقدم المتطوع على غيره، وفي بعض الشركات – ومنها الشركة التي كنت أعمل فيها – يوجد بند في تقييم أداء الموظف مرتبط بالأداء التطوعي كيفا وكما. إنها ثقافة زرعت لديهم فكان التطور والانضباط إحدى نتائجها.

إن من مميزات العمل التطوعي أنه يهذب النفس ويزكيها من الأنانية، فالتطوع عطاء بلا مردود مادي، بل هو عطاء لمجرد العطاء. وفيه يتجرد الإنسان من واقعه وعمله ومحيطه المريح، فيلتفت إلى عالم لا يعرفه، عالم يسمع عنه ولم يعشه فيتطوع ليدرك قيمة ما من الله به.

والتطوع كذلك يوسع المدارك ويصقل المهارات ويفتح الآفاق ويبني العلاقات الجديدة، وبه يخدم المتطوع وطنه ويساهم في تغيير هذا العالم ليصبح أجمل.

ربما لا أستطيع سرد كل مميزات التطوع فلست ممن كرس حياته أو جزءا منها لهذا العمل النبيل، ولكن ذكرت بعض ما سمعت وعرفت ممن أنعم الله عليه بمزاولة التطوع فأصبح جزءا من حياته. ولعلي هنا أتذكر ذاك المعلم الذي طلبت منه منذ سنة أن نعمل على مشروع معين، وذكر لي أنه يستطيع العمل معي في أي وقت إلا يوم الأحد من الساعة الثالثة عصرا حتى صلاة المغرب، فهو وقت مخصص للتطوع. والتطوع هنا ليس المقصود به الدعوة إلى الله، فهذا ولله الحمد سخر الله له جنودا من هذا البلد يقومون به على أكمل وجه، ولكن المقصود هو العمل الميداني، فالرجل يستغل هذا الوقت ليدرس مجموعة من الأيتام مهارات الحياة ويرافقهم في هذه الساعات الثلاث. ويقول إنه لم يشعر بالراحة والنشاط المستمر إلا بعد تخصيص هذا الوقت للتطوع.

ومن المواقف الجميلة عن التطوع في بلادي ما قامت به مجموعة من المتطوعين بجهود شخصية بإنشاء حملة باسم «حملة تشجير الرياض» في تويتر، تفاعل معها عشرات الآلاف وتقدم 3 آلاف متطوع لتحقيق هذه الحملة. وهذا يؤكد الرغبة والقدرة الموجودتين لدى مجتمعنا في التطوع، إلا أنه يحتاج لتنظيم يخدمهم. ولعل جامعاتنا تساعدنا في ذلك، فأذكر أني اطلعت على أحد مشاريع التخرج في جامعة الملك سعود قبل بضع سنوات عن بوابة الكترونية للتطوع، من خلال البوابة يطرح الراغب في التطوع أوقات فراغه والمهارات التي يتقنها والمدينة التي يسكنها، بحيث تقوم المؤسسة أو المنظمة المحتاجة إلى التطوع بالتواصل مع الراغبين. ليت هذه المشاريع وغيرها في جامعاتنا ترى النور ولا تكون حبيسة الجامعة، فربما يكون هذا المشروع بذرة لزراعة ثقافة التطوع في مجتمعنا المعطاء.

قفلة:

قال لي أحد المتطوعين «التطوع عمل مجاني، ليس لأنه عديم القيمة، بل لأنه لا يقدر بثمن».

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

لأنهما والداك يا ابن آدم

سألت نفسي يوما سؤالا، والآن أوجهه للقراء: لماذا نبر والدينا؟ سؤال قد يظن القارئ أنه بدهي فيجيب أحدهم أنه امتثال لأمر الله القائل «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا». وقد يقول آخر إن بر الوالدين من أسباب السعادة والنجاح، فيندر أن تجد ناجحا إلا بارا بوالديه حتى وإن لم يكن مسلما. الإجابتان صحيحتان، ولكنهما بالنسبة لي ليستا كافيتين وتحتاجان إلى إيضاح أكبر.

نعم نحن نبر والدينا اتباعا للأمر الرباني، ونتقرب له سبحانه بذلك، ولكني أرى أن لله حكمة في هذا الأمر تحديدا، وهذا ما حاولت أن أبحث عنه، فوصلت إلى أن الله وصانا بذلك لأن الإحسان إليهما ما هو إلا دين نرده لهما، فالمشقة والمعاناة في الحمل والرضاعة والسهر والنفقة والتربية وغيرها يستحق الوالدان معها البر والشكر، وأن يقترن الإحسان بهما بعبادة الله سبحانه، وهذا ما أدركته من قول الله تعالى «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير»، فحتى شكرهما اقترن بشكر الله جل وعلا، فمهما أحسنا إليهما وبررنا بهما لا يمكنا رد دينهما العظيم. ولعلنا نذكر الأثر المنسوب للصحابي الجليل عبدالله بن عمر عندما سأله رجل يحمل أمه ويحسن إليها بأن لو كان أوفاها حقها، فأجابه ابن عمر: ولا بطلقة من طلقاتها. وهذا يؤكد بأن فضل الوالدين علينا كبير، فالإحسان إليهما مهما بلغ لن يوفيهما حقهما، وبهذا أدركت لماذا أوصانا الله بهما.

أما من يقول إننا نبرهما بحثا عن السعادة والنجاح، فأقول له: نعم قد يكون ذلك نتيجة للبر، ولكنه ليس سببا له، فبر هذا سببه ما هو إلا بر نابع من أنانية. البر يجب أن يكون منبعه حبنا لهما، لا حبا لأنفسنا وطمعا في مستقبلنا، فحبهما يجب أن يكون حبا نقيا صافيا خالصا، فعلاقتنا بهما من أسمى وأقدس العلاقات الوجودية، ولا يجب أن تتعكر هذه العلاقة بالمصالح. إن حبهما فطرة، فالطفل يحب أبويه غير مدرك بأن ذلك مربوط بسعادة ولا سبب في نجاح، إنما يحبهما لأنهما والداه فقط. بل حتى الحيوانات، خلقها الله بنفس هذه الفطرة. لذلك، فأي بر لسبب غير الحب الخالص أعتقد أنه بر مزيف، بر غيرت الحياة الدنيا طبيعته ولوثت نقاوته.

ختاما، لا نحتاج أن نغري من نوصي ببر الوالدين بجنة عرضها السماوات والأرض، ولا بنجاح وسعادة وتفوق في المستقبل. فيكفينا أن برهما سبب في إدخال السعادة في قلب من تعب لنرتاح، وإرضاء لمن أحبنا رغم عيوبنا وأخطائنا أكثر من حبه لنفسه، ووفاء لمن صدقنا القول دائما فلم يجاملنا ولم يتزلف إلينا يوما. نقول باختصار: نبرهما لأنهما والدانا وكفى.

قفلة:

لقلة حيلتي أرى أن أفضل ما يمكن أن أختم به هذا المقال هو هذا الدعاء لكل أب وأم

اللهم كما أحسنوا إلينا فأحسن إليهم، وكما أكرمونا فأكرمهم، وكما رحمونا فارحمهم، وكما أنفقوا علينا فأنفق عليهم، وكما قدمونا على أنفسهم فقدمهم. اللهم ارفع درجاتهم ويسر أمورهم واغفر زلاتهم واختم بالصالحات أعمالهم

اللهم من كان منهم مريضا فاشفه، ومن كان منهم مبتلى فعافه، ومن كان منهم محتاجا فأعنه، ومن كان منهم فقيرا فأغنه، ومن كان منهم ميتا فانزل عليه رحمتك، ومن كان منهم حيا فأمدد في عمره على طاعتك. اللهم وارزقنا رضاهم ونعوذ بك اللهم من عقوقهم. إلهنا لا يكافئهم إلا أنت ولا يجازيهم إلا أنت فاللهم أجزلهم يا كريم يا رحمن

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

النفاق التطوعي

على مدى عقود من الزمن مرت مملكتنا الغالية بمخاض من التجارب والتطورات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من تقدم ملحوظ في العديد من المجالات. كل ذلك تم في فترة وجيزة نسبيا، ففي عصر أجدادنا كانت البلاد صحراء قاحلة وأهلها بدو رحل تغلب عليهم الأمية.

إن الفضل بعد الله لهذه النجاحات لا يعود لشخص بذاته بقدر ما هو مجهود لسلسلة من رجال ونساء تعاقبوا وخدموا دينهم ووطنهم واجتهدوا فطوروا، مواطنين كانوا أم مقيمين، فراية التطوير تتنقل من يد إلى أخرى والعمل الجماعي المتكامل هو أساس هذه التنمية وسرها.

رغم عظم النعم التي حبى الله بها هذه البلاد وأهلها إلا أنه يوجد من يقلل منها وينتقص ممن يعمل ويشكك في أهليته ونواياه ويسلط الضوء على القصور القليل متجاهلا النجاحات الكبيرة، فهذا الساخط كالذي ينظر إلى نهر جميل فيقول ما أسوأ طين قاع هذا النهر! هؤلاء ليسوا محور حديثي، بل الحديث عن نقيضهم تماما، ولكنهم يشتركون في نفس الأثر السلبي على المجتمع.

هنا، أتحدث عمن يغالي في وصف نجاحاتنا فيعمينا عن القصور ويعظم بالمديح رموز الحاضر فينسف من سبقهم أو من يعمل معهم. أتحدث عمن لو اطلعنا على مقالاتهم أو قصائدهم لاشمأزت منها قلوبنا ولاقشعرت منها أبداننا من مبالغات وتجاوزات ومغالطات.

إن المبالغة في المدح والمغالاة في الثناء تحلان محل الذم، بل إنهما أسوأ في كثير من الأحيان، فلا الممدوح سعيد بما يقرأ ولا المادح بكاسب احترام القارئ. ومما يزيد الطين بلة أنه لم يطلب منهم كتابة تلك المقالات ولا هم حائزون مكافآت جراء ذلك، وهذا مما يجعلنا نستنكر هذا النفاق التطوعي، إن صحت التسمية.

إن المنافقين المتطوعين آفة على المجتمع وعثرة في طريق التنمية، فهم سبب في تثبيط الهمم ومدعاة لفتن الممدوح وبكل تأكيد فهم يستهزئون بالمتلقي. أقول لهم: كم نهينا عن السلبية والسخط! فنبينا عليه الصلاة والسلام وصى صحابته والمؤمنين من بعدهم بحث التراب في وجوه المادحين، فليتنا نعي خطورة المبالغة في المدح وننبذه من مجتمعنا حتى لو قل. ولنعرف أن مما يساهم في التطور هو الإنصاف في الثناء والنقد. أكرر الإنصاف «فلا إفراط ولا تفريط».

قفلة:

«من لا يشكر الناس، لا يشكر الله» هذه حقيقة تجعلني أسعى دوما لشكر كل من يستحق الشكر ومدح من يستحق بدون مبالغة، فللناس حدود في الثناء أما خالقهم سبحانه فلا مبالغة في مدحه ولا حدود للثناء عليه ولا كفاية من شكره.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

الحرب مبدؤها كلام

جرت العادة أن أعطي رأيي في كل نقاش يدور في المجالس، وبغض النظر إن عرفت القليل أم الكثير عن الموضوع المطروح، فكلمة «لا أعرف» ليست في قاموسي، لأن اعتقادي أنه لا ملامة علي ما دام أنها وجهة نظر شخصية، وفي الأول والأخير الرأي لا يفرض بل يؤخذ ويترك. ومع توسع قنوات الاتصال وسهولة طرح الآراء فيها، استدركت أن الموضوع أصبح خطأ، بل خطرا جسيما.

في السابق، كنا نسمع تحاليل القضايا السياسية من باحث سياسي متمكن، والدروس والخطب الدينية من طالب علم متبحر، وكذلك في الأمور الاقتصادية والاجتماعية وحتى الصحية. أما الآن فنرى متسيدي الأطروحات والآراء في كل تلك القضايا هم أشخاص ثابتون لا يتغيرون بتغير الموضوع. فلا تخصص في الطرح، وبكل تأكيد لا علم كافيا وخلفية قوية متعلقة بكل تلك المواضيع.

أصبح ذلك خطرا لأنه مع سهولة طرح الرأي في الإعلام الجديد، تحول النقاش من وجهة نظر فردية في مجلس صغير إلى نشر فكرة أو رأي يقرؤه أو يشاهده الآلاف إن لم يكن الملايين من العامة.

هذه الآراء أصبحت لدى الكثير منا مصدرا للمعلومة، وأصبحت سببا في حراك الفكر وتحويلها إلى قضية رأي عام. لذلك علينا الحذر فيما نقول ولمن نقول ومتى نقول. الكلمة لم تصبح عابرة كما اعتدنا، بل أصبحت موثقة ومؤثرة، فلنتق الله فيما نقول فهو من أمرنا في كتابه المبين (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)، وحذرنا بقوله (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) صدق الله العظيم.

إننا في هذا الوقت وفي أكثر من أي وقت مضى نحتاج أن نراجع أنفسنا قبل طرح أي رأي أو وجهة نظر في أي موضوع، فعلينا أن نتأكد من تبعات كلامنا، فإن كان خيرا فلا مانع من طرحه، أما إن كان غير ذلك فالصمت هو القرار الأحكم. ألم يوصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)؟ هذا قول أقوله وأنا مقتنع أنه ليس مصادرة للآراء بقدر ما هو نهج سأسعى أن انتهجه في حياتي، فلقد قرأت في الأثر قول أدركت أهميته متأخرا ألا وهو (ما ندمت على سكوتي مرة، ولكنني ندمت على الكلام مرارا).

قفلة:

أذكر تغريدة لوالدي رحمه الله خطها بيده، وما زلت محتفظا بها، أرى أنها مناسبة لقفلة هذا المقال. نص التغريدة:

الوطن مسكن وحماية، علينا أن نحافظ عليه ونذود عن كرامته، ولا نثير الفتن بين أهله، الحريق أوله شرارة فإن النار بالعودين تذكى، وإن الحرب أولها كلام

محمد الرشيد

نشرت المقالة في صحيفة مكة

لست متأمركا

أصبحت زيارة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للمملكة حديث المجالس والإعلام لهذا الأسبوع، وبما أنه كذلك، سأتحدث عن أمريكا التي أعرف بعيدا عن السياسة التي لا أفقهها. سأتحدث عن المدة الطويلة التي قضيتها في أمريكا. قضيت فترة منها وأنا طالب جامعي أعزب، وفترة أخرى وأنا موظف متزوج وأب.

هذه المدة كفيلة بأن تعرفني أكثر بأمريكا وأهلها. وفي هذا المقال لست بصدد المبالغة في مدح أمريكا وأهلها ففيها الصالح والطالح كأي شعب على وجه المعمورة، ولكني سأتطرق للصالح الذي أعتقد أنه أضاف لي، والذي قد يخفى عن الكثير ممن سمع بأمريكا ولم يرها على وجهها الحقيقي.

هناك، عشت في بيئة منفتحة تختلف عن البيئة المحافظة التي عشتها في مملكتنا، فوجدت الفوارق بين البيئتين، ساعدني ذلك على زيادة فهمي للإسلام وتعمقي فيه أكثر. هناك لم يكن لدي رقيب ولا حسيب إلا الله سبحانه، والسبل كانت متاحة أمامي لأي منكر أو عمل مخالف لتعاليم ديننا.فالحرية وعدم التدخل في شؤون الآخرين التي عشتها هناك عرفتني معنى أن أحفظ الله ليحفظني، وعرفتني معنى الإحسان الحقيقي، ووضحت لي الفرق بين الخوف من الله والخوف من كلام الناس، وقتها وضحت لي القيم التي زرعها والداي في، فكانت الرادع بعد الله من المنكرات، كل ذلك لم أكن لأدركه إلا من خلال تجربتي في أمريكا.

إن مما عرفته في أمريكا هو أن الإسلام ليس فقط عبادات وعقيدة، بل أخلاق وسلوك. فكثير من سلوك وأخلاق الشعب الأمريكي هي بالأساس من صفات المسلم قبل أن تكون «أمريكية»، فعرفت أن أخلاق الإسلام هي الأخلاق التي فطر الإنسان على اتباعها. هناك، وجدت الابتسامة والبشاشة والمساعدة والدعم في أناس لا تربطني بهم إلا الإنسانية. أدركت أن هذا التهذيب هو ما يجب أن يكون فينا نحن أتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه هي خصاله وخصال صحابته.

هناك عرفت أن النظافة جزء من سلوك المجتمع، فنادرا جدا أن ترى قذارة في الشارع أو الحدائق أو بقايا طعام على طاولة مطعم، الكل يترك المكان أفضل مما كان عليه. هناك، شاهدت وعشت الالتزام، واحترام الجميع، هناك لاحظت أن التطوع ومساعدة المحتاج جزء من حياة الإنسان. هناك، عشت مع أجناس وأديان مختلفة، إلا أن ذلك فعلا «لم يفسد للود قضية».

أقول هذا الكلام، وكلي خوف من أن أتهم بالتأمرك أو التغريب، إلا أني أقول ذلك لما أراه من توافق مع ديننا الحنيف ومع أخلاق المسلمين الذين سبقونا ونقلوا لنا هذه التعاليم النبوية الشريفة. أقول هذا الكلام بالعين التي تريد الاستفادة من إيجابيات المعيشة في أمريكا، لا ذما لسلبياتها. أقول هذا الكلام وأنا بكل فخر لست متأمركا، بل مسلما أدرك عمق الإسلام في الغربة.

قفلة:

أن نمتدح أمريكا لا يعني أننا ننتقص من أنفسنا، فلقد سبقنا الصحابي عمرو بن العاص عندما وصف الروم فقال: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وأرحمهم لمسكين ويتيم وضعيف.

نشرت المقالة في صحيفة مكة