والصُّلح خير

يوم الثلاثاء ٥ يناير ٢٠٢١م انعقدت القمة الخليجية في العُلا، وكان الحدث الأبرز هو إنهاء الأزمة الخليجية التي دامت أكثر من ٣ سنوات …

في هذه التدوينة لن أتحدث عن المصالحة، ولن أتحدث عن المقاطعة بعينها ولكن سأعرض المشهد كما رأيته ولاحظته أثناء الأزمة.

قبل بدء عرض المشهد، فمنذ أعلنت المملكة العربية السعودية والدول الثلاث الأخرى مقاطعتها لقطر ولم يكن لي رأي في الموضوع ولا أعتقد أنه يجب أن يكون لي رأي فيه وذلك لأن الحكومات تملك من المعلومات والوثائق ما لا يملكه الفرد فرأيت أنه من الصعب أن أبدي رأياً في أمر أجهل الكثير من خفاياه، وهذا أولًا. أما ثانيًا وهو الأهم، فأنا أثق بأن حكومة بلادي همها الأول والأخير الوطن والمواطن وليس لدي شك في أن كل ما تقوم به هذا هدفه، والشواهد على ذلك كثيرة، فما اتخذته من إجراء -ولو كان قاسيًا- بالنسبة لي هو محل تأييدٍ مطلق.

أما الآن، لنتحدث عن مشهد ردود الفعل لحالة المقاطعة كما رأيته

انقسم الناس تجاه الأزمة إلى خمسة فئات

الفئة الأولى: المدافع بالحجة
لأن الأزمة فيها طرفان، فمن الطبيعي تبادل الاتهامات من الطرفين، فهذه الفئة وأثناء الأزمة كانوا بمثابة الصف الأول للدفاع عن الطرف الذي ينتمي له، ودفاعهم عادة ما يكون مصحوب بحقائق. حُجج هذه الفئة قوية، يتعاطون بالمنطق قبل العاطفة. يحللون الأحداث بوضوح بهدف تبيان وجهة النظر. لا تشعر في طرحهم شخصنة بقدر ما هو عرض لمكامن الإشكال والخلاف. هؤلاء وإن كانوا أكثر المطروح منطقًا إلا أن نَفَسهم لم يكن الأطول في النقاشات، وصوتهم لم يكن الأعلى في وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي مقارنة بالفئات التالية ذكرها. هذه الفئة تنسحب حال ما وجدوا أن الأمر اتجه للبذاءة والدناءة. هَمهم الأول والأخير تبني مواقف بلادهم والدفاع عن توجهاته.
لمعرفتهم، انظروا لتأييدهم المنطقي للمصالحة، وانتقالهم لتحليل مستقبل عودة العلاقات

الفئة الثانية: مرتزق الأزمات
هذه الفئة التي تتغذى وتسترزق على الأزمات. هي فعلياً لا يعنيها الطرفين المتنازعين، ولا يهمها مصلحة أيٍ منهما. ولكن الخلاف بالنسبة لهم مصدر رزق! والرزق ليس شرطًا أن يكون ماديًا، فقد يكون الرزق جماهيريًا من خلال الإثارة والكذب والتراشق الإعلامي، وقد يكون الرزق وظيفيًا من خلال تصدر المشهد وزيادة المشاهدات في القنوات الإعلامية التي ينتمي لها، وقد يكون الرزق غذاء للروح السيئة التي يمتلكها. لا يهم كيفية الرزق، ولكن بكل تأكيد أن هذا المرتزق يضر الطرفين في ردات فعله، ويسعى لزيادة الفجوة بينهما قدر المستطاع. هم قليلون ولكن أثرهم للأسف قوي! لديهم دهاء كافٍ لإغراء ضعيفي النفوس، وقليلي الاطلاع. يظهرون بصورة المتعاطف مع طرف دون الآخر. يستخدم مصطلحات إعلامية ومصادر وهمية لإقناع متابعيه ومشاهديه.
لمعرفتهم، انظروا إلى ردود فعلهم الساخطة بعد الصُلح الذي نسأل الله أن يكون مباركًا

الفئة الثالثة: الفاجر في الخصومة
هذه الفئة هي ردة فعل للفئة الثانية للأسف. هم بلا شك حريصون على أحد الأطراف، وكل فرد فيهم يؤمن أنه يدافع عن الطرف الذي يمثله، ولكن لا يعلم أن طريقته تزيد “الطين بله”. مع سهولة إبداء الرأي في وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحوا يقرأون للافتراءات والاتهامات التي تطلقها الفئة المرتزقة فيتجاوبون معها بحماس المحب لوطنه لدرجة أنه يتجه إلى الشتم والبذاءة وكثير من الأحيان إلى الشخصنة غير المحمودة، فيفجرون في الخصومة! هؤلاء صوتهم عالي، وعددهم ليس بالقليل. دوافعهم سليمة ١٠٠٪ ولا ينكره أحد، ولكن شخصيًا أختلف مع الطريقة. فصاحب الحق لا يعلو صوته، ولا يتجه إلى الشخصنة، وبكل تأكيد يتجنب البذاءة.
لمعرفتهم، انظروا إلى الحسابات الفرحة بالصُلح، ولكن فرح يشوبه التبرير عنما بدر منهم أثناء الأزمة، ورغم الصلح إلا أنهم لم يكفوا عن شماتة المرتزقة.

الفئة الرابعة: المشكك الناقم
بعيد عن هذه الأزمة فهذه الفئة دائمًا تنظر إلى الأمور بأنها مؤامرة، وتصدق الأخبار الأحادية المصدر على الأخبار المتواترة المصادر. تظن أن الحكومة دائمة التآمر على المواطن والوطن. في النقاشات معهم، لا يملكون الحقائق الداعمة لنظرياتهم، وإن حاولت تستخدم معهم المنطق يسفهوك بالتضليل! ترى أن كل ما لدى الآخرين مميز وكل ما لدينا رديء، وفي مقارناتهم بما عندنا وما عند الآخرين تجدهم انتقائيين جدًا ليرجحوا وجهة نظرهم. هذه الفئة وأثناء الأزمة، تصدق ما يطرحه المرتزقة، وتتابع فقط مصادر الأخبار الطرف الآخر من النزاع، ولا تثق بما تطرحه وسائل إعلام دولته وتشكك في نوايا حكومته في اتخاذها لقرارات المقاطعة. تواجدهم بأسمائهم الحقيقية في التواصل الاجتماعي شبه معدوم، وتراهم أكثر في بعض المجالس الخاصة.
لمعرفتهم، انظروا لمن يشكك في الصُلح ويكثر اختلاق الأسباب المشوهه خلف عودة العلاقات!

الفئة الخامسة: الصامت الواثق
هذه الفئة والتي أظن أنها الغالبية، اقتنعت أن الموقف الذي اتخذته دولتها هو للصالح العام رغم مرورته، وأن العلاقات وإن كانت مقطوعة مصيرها تعود إلى طبيعتها فهذا خلاف يحصل في البيت الواحد. هؤلاء حريصون على ألا يزيدوا من الفتنة، وأن سكوتهم في كثير من الأحيان ثقة في أن علاج المشكلة هو الوقت. هذه الفئة لا تبدي الرأي في هذه القضايا، وتتبنى دائما الموقف الرسمي بعيداً عن السجالات والمهاترات التي كثرت في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض القنوات الإعلامية.
لمعرفتهم، انظروا لفرحة من لم يشارك خيراً أو شراً أثناء الأزمة بعودة البيت الخليجي لمتانته وترابطه

هذه الانقسامات طبيعية في أي مجتمع صحي، ولا يوجد مجتمع فاضل نبيل غير منقسم. هذه الانقسامات تكون مقبولة ما دام هناك حكومة واعية وفاعلة في اتخاذ الأنسب لمواطنيها وأزعم أن بلادنا رزقت بهذه الحكومة والتي أدعو الله أن تسدد خطاها.

الآن وبعد انتهاء الأزمة، هذه لم تكن أول الأزمات ولن تكون الأخيرة بالتأكيد فهذه سنة الحياة. والأمر الثابت في السياسة أنه “لا يوجد حليف أبدي ولا عدو دائم ولكن توجد مصالح أبدية دائمة وهي من واجب الساسة البحث عنها” كما قال أحد وزراء الخارجية البريطانيين في القرن التاسع عشر.

وأخيراً، كتبت التدوينة هذه بمسمى “الصُلح خير” اقتباساً من القرآن الكريم. صحيح أنها ذكرت في موضع الخلاف الزوجي إلا أن “الصُلح خير” هي عبارة مطلقة وليست مرتبطة فقط في الزواج.