يبهرني غازي!

يكفي أن أقول يبهرني غازي، ليدرك القارئ أني أتحدث عن غازي بن عبدالرحمن القصيبي
فلولا أني عشت في عصره، لظننت أنه أسطورة أو شخص بالغوا في وصفه ..
لكنه رجل حقيقي وشخص استثنائي. أحببنا كل ما فيه من تميز وإبداع ..
لا أعرف كيف نصفه -رحمه الله- فلو قيل عنه أنه متعدد المواهب، فهذا غير كاف لأن متعددي المواهب كثر، ولكن قله من صقل ما وهبه الله إلى أن وصلت مرحلة التفوق ولا أعرف أحد تعددت تفوقاته إلا غازي!
وهل تفوقه كان في مجالات ليس فيها منافسين؟
لا، بالعكس تمامًا فلقد تميز وتفوق رغم بروز العديد من الأسماء في كل مجال خاضه!

فلو تحدثنا عن الشعر الحديث، فلابد من ذكر قصائد حفظناها كانت بمثابة موسيقى فنية إبداعية .. مثل أبيات من قصيدة حديقة الغروب:

يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه
        وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري
وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به
         علي... ما خدشته كل أوزاري
أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع
       لي.. أيرتُجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟

وإن تحدثنا عن الرواية والأدب، فلا يمكن تجاهل أعماله الخالدة، بدايةً من شقة الحرية مرورًا بالعصفورية إلى أبو شلاخ البرمائي

أما في جانبه الإداري فمنذ بداية توليه عمادة كلية التجارة، ومن ثم إدارته لمؤسسة العامة للخطوط الحديدية، وتلاها وزيرًا للصناعة والثروة المعدنية، فوزيرًا للصحة حتى كتب كتابة الشهير “حياة في الإدارة” الذي أصبح مرجعًا مهمًا لعلم الإدارة، ومنهجًا دراسيًا عمم في مناهج التعليم السعودية

ولا يمكن تجاهل دوره السياسي المهم في تاريخ بلادنا الغالية، فلقد عُيّن سفيرًا لأكثر من دولة، وانتدب لكثير من المهام الخاصة والتي لم تقتصر مع ملك واحد، فغازي كسب ثقة الملوك الذين خدمهم بداية من الملك فيصل، ثم الملك خالد، فالملك فهد، وأخيرًا الملك عبدالله رحمهم الله جميعًا

والجانب الأخير فهو الجانب الإعلامي المؤثر، إضافة إلى ظهوره الملفت والماتع في لقائاته ومنتداياته، فقلمه كان سلاح مسخر للوطن، ولعلنا نذكر سلسلة من مقالاته التي كانت درعًا وسيفًا ورمحًا مهمًا أثناء غزو صدام للكويت بعنوان “في عين العاصفة

بعيدًا عن كل هذه الجوانب، والتي لم أتي بجديد في ذكرها، ولم أفي فيها القامة غازي، إلا أني كتبت هذه التدوينة بعد قرائتي لأمر شدني ويبدو أنه يكشف الشيء اليسير عن هذه الأسطورة الحقيقية -إن صح التعبير- فلقد قرأت إحدى مراجعات روايته شقة الحرية والتي نصت على:

تمثل هذه الرواية إهانتين. الأولى لذكاء القارئ والتاريخ. والثانية للرواية والروائي (…) فهو لا يعرف عن الرواية سوى اسمها (…) وعليه أن لا يتنطح للرواية التي تتطلب موهبة وقدرات لا نظن أنه بقادر عليها

سمير اليوسف – جريدة “القدس العربي”

هذا النقد الصريح لم أبحث عنه في مواقع مراجعة الرواية، ولكن قرر غازي أن تكون في غلاف روايته الخلفي!
للتأكيد مره أخرى، غازي القصيبي (الراوي نفسه) رأى أن تكتب وتوثق هذه المراجعة الجارحة في غلاف الكتاب لكي يقرأه القارئ قبل العزم في قراءة الرواية. أليس هذا أمر عجيب؟!
الذي أعرفه أن الناس تتضايق من قراءة النقد القاسي، فكيف بمن يقرأه ويقبله، بل يرحب به وينشره؟
أي مرتبة من الصلح الداخلي وصل له غازي لتجعله ينادي بالنقد وإن قسى؟ هل هذه الثقة بالنفس طبيعية؟ أم أنها سر من أسرار أسطورتنا؟

رحم الله الأسطورة غازي بن عبدالرحمن القصيبي
وعوض بلادنا والجيل القادم بمثله وبخير منه

والصُّلح خير

يوم الثلاثاء ٥ يناير ٢٠٢١م انعقدت القمة الخليجية في العُلا، وكان الحدث الأبرز هو إنهاء الأزمة الخليجية التي دامت أكثر من ٣ سنوات …

في هذه التدوينة لن أتحدث عن المصالحة، ولن أتحدث عن المقاطعة بعينها ولكن سأعرض المشهد كما رأيته ولاحظته أثناء الأزمة.

قبل بدء عرض المشهد، فمنذ أعلنت المملكة العربية السعودية والدول الثلاث الأخرى مقاطعتها لقطر ولم يكن لي رأي في الموضوع ولا أعتقد أنه يجب أن يكون لي رأي فيه وذلك لأن الحكومات تملك من المعلومات والوثائق ما لا يملكه الفرد فرأيت أنه من الصعب أن أبدي رأياً في أمر أجهل الكثير من خفاياه، وهذا أولًا. أما ثانيًا وهو الأهم، فأنا أثق بأن حكومة بلادي همها الأول والأخير الوطن والمواطن وليس لدي شك في أن كل ما تقوم به هذا هدفه، والشواهد على ذلك كثيرة، فما اتخذته من إجراء -ولو كان قاسيًا- بالنسبة لي هو محل تأييدٍ مطلق.

أما الآن، لنتحدث عن مشهد ردود الفعل لحالة المقاطعة كما رأيته

انقسم الناس تجاه الأزمة إلى خمسة فئات

الفئة الأولى: المدافع بالحجة
لأن الأزمة فيها طرفان، فمن الطبيعي تبادل الاتهامات من الطرفين، فهذه الفئة وأثناء الأزمة كانوا بمثابة الصف الأول للدفاع عن الطرف الذي ينتمي له، ودفاعهم عادة ما يكون مصحوب بحقائق. حُجج هذه الفئة قوية، يتعاطون بالمنطق قبل العاطفة. يحللون الأحداث بوضوح بهدف تبيان وجهة النظر. لا تشعر في طرحهم شخصنة بقدر ما هو عرض لمكامن الإشكال والخلاف. هؤلاء وإن كانوا أكثر المطروح منطقًا إلا أن نَفَسهم لم يكن الأطول في النقاشات، وصوتهم لم يكن الأعلى في وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي مقارنة بالفئات التالية ذكرها. هذه الفئة تنسحب حال ما وجدوا أن الأمر اتجه للبذاءة والدناءة. هَمهم الأول والأخير تبني مواقف بلادهم والدفاع عن توجهاته.
لمعرفتهم، انظروا لتأييدهم المنطقي للمصالحة، وانتقالهم لتحليل مستقبل عودة العلاقات

الفئة الثانية: مرتزق الأزمات
هذه الفئة التي تتغذى وتسترزق على الأزمات. هي فعلياً لا يعنيها الطرفين المتنازعين، ولا يهمها مصلحة أيٍ منهما. ولكن الخلاف بالنسبة لهم مصدر رزق! والرزق ليس شرطًا أن يكون ماديًا، فقد يكون الرزق جماهيريًا من خلال الإثارة والكذب والتراشق الإعلامي، وقد يكون الرزق وظيفيًا من خلال تصدر المشهد وزيادة المشاهدات في القنوات الإعلامية التي ينتمي لها، وقد يكون الرزق غذاء للروح السيئة التي يمتلكها. لا يهم كيفية الرزق، ولكن بكل تأكيد أن هذا المرتزق يضر الطرفين في ردات فعله، ويسعى لزيادة الفجوة بينهما قدر المستطاع. هم قليلون ولكن أثرهم للأسف قوي! لديهم دهاء كافٍ لإغراء ضعيفي النفوس، وقليلي الاطلاع. يظهرون بصورة المتعاطف مع طرف دون الآخر. يستخدم مصطلحات إعلامية ومصادر وهمية لإقناع متابعيه ومشاهديه.
لمعرفتهم، انظروا إلى ردود فعلهم الساخطة بعد الصُلح الذي نسأل الله أن يكون مباركًا

الفئة الثالثة: الفاجر في الخصومة
هذه الفئة هي ردة فعل للفئة الثانية للأسف. هم بلا شك حريصون على أحد الأطراف، وكل فرد فيهم يؤمن أنه يدافع عن الطرف الذي يمثله، ولكن لا يعلم أن طريقته تزيد “الطين بله”. مع سهولة إبداء الرأي في وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحوا يقرأون للافتراءات والاتهامات التي تطلقها الفئة المرتزقة فيتجاوبون معها بحماس المحب لوطنه لدرجة أنه يتجه إلى الشتم والبذاءة وكثير من الأحيان إلى الشخصنة غير المحمودة، فيفجرون في الخصومة! هؤلاء صوتهم عالي، وعددهم ليس بالقليل. دوافعهم سليمة ١٠٠٪ ولا ينكره أحد، ولكن شخصيًا أختلف مع الطريقة. فصاحب الحق لا يعلو صوته، ولا يتجه إلى الشخصنة، وبكل تأكيد يتجنب البذاءة.
لمعرفتهم، انظروا إلى الحسابات الفرحة بالصُلح، ولكن فرح يشوبه التبرير عنما بدر منهم أثناء الأزمة، ورغم الصلح إلا أنهم لم يكفوا عن شماتة المرتزقة.

الفئة الرابعة: المشكك الناقم
بعيد عن هذه الأزمة فهذه الفئة دائمًا تنظر إلى الأمور بأنها مؤامرة، وتصدق الأخبار الأحادية المصدر على الأخبار المتواترة المصادر. تظن أن الحكومة دائمة التآمر على المواطن والوطن. في النقاشات معهم، لا يملكون الحقائق الداعمة لنظرياتهم، وإن حاولت تستخدم معهم المنطق يسفهوك بالتضليل! ترى أن كل ما لدى الآخرين مميز وكل ما لدينا رديء، وفي مقارناتهم بما عندنا وما عند الآخرين تجدهم انتقائيين جدًا ليرجحوا وجهة نظرهم. هذه الفئة وأثناء الأزمة، تصدق ما يطرحه المرتزقة، وتتابع فقط مصادر الأخبار الطرف الآخر من النزاع، ولا تثق بما تطرحه وسائل إعلام دولته وتشكك في نوايا حكومته في اتخاذها لقرارات المقاطعة. تواجدهم بأسمائهم الحقيقية في التواصل الاجتماعي شبه معدوم، وتراهم أكثر في بعض المجالس الخاصة.
لمعرفتهم، انظروا لمن يشكك في الصُلح ويكثر اختلاق الأسباب المشوهه خلف عودة العلاقات!

الفئة الخامسة: الصامت الواثق
هذه الفئة والتي أظن أنها الغالبية، اقتنعت أن الموقف الذي اتخذته دولتها هو للصالح العام رغم مرورته، وأن العلاقات وإن كانت مقطوعة مصيرها تعود إلى طبيعتها فهذا خلاف يحصل في البيت الواحد. هؤلاء حريصون على ألا يزيدوا من الفتنة، وأن سكوتهم في كثير من الأحيان ثقة في أن علاج المشكلة هو الوقت. هذه الفئة لا تبدي الرأي في هذه القضايا، وتتبنى دائما الموقف الرسمي بعيداً عن السجالات والمهاترات التي كثرت في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض القنوات الإعلامية.
لمعرفتهم، انظروا لفرحة من لم يشارك خيراً أو شراً أثناء الأزمة بعودة البيت الخليجي لمتانته وترابطه

هذه الانقسامات طبيعية في أي مجتمع صحي، ولا يوجد مجتمع فاضل نبيل غير منقسم. هذه الانقسامات تكون مقبولة ما دام هناك حكومة واعية وفاعلة في اتخاذ الأنسب لمواطنيها وأزعم أن بلادنا رزقت بهذه الحكومة والتي أدعو الله أن تسدد خطاها.

الآن وبعد انتهاء الأزمة، هذه لم تكن أول الأزمات ولن تكون الأخيرة بالتأكيد فهذه سنة الحياة. والأمر الثابت في السياسة أنه “لا يوجد حليف أبدي ولا عدو دائم ولكن توجد مصالح أبدية دائمة وهي من واجب الساسة البحث عنها” كما قال أحد وزراء الخارجية البريطانيين في القرن التاسع عشر.

وأخيراً، كتبت التدوينة هذه بمسمى “الصُلح خير” اقتباساً من القرآن الكريم. صحيح أنها ذكرت في موضع الخلاف الزوجي إلا أن “الصُلح خير” هي عبارة مطلقة وليست مرتبطة فقط في الزواج.

مطبخ المنشآت

الجامعة.. الجامعة.. الجامعة.. وللمرة الرابعة الجامعة هي المؤسسة التي تعتبر مطبخا رئيسيا للمنشآت ومصنعا للاقتصادات ومولدا للوظائف وحلا للبطالة. حصلت لي فرصة الأسبوع الماضي على أن أطلع وأسمع عن فعاليات مشاريع طلاب وطالبات الجامعات في بلادنا المباركة.

وهي فعاليات تقام كل سنة في مثل هذا التوقيت. والطابع المشترك في كل هذه الفعاليات هو الحماس والجدية والاندفاعية التي تكاد تهد الجبال. هؤلاء الشباب والشابات يملكهم طموح عال وإصرار عجيب، فلا خوف ولا تردد في مواجهة أي تحد. ومما يثلج الصدر أن إيمانهم بقدراتهم يؤكد أن مستقبلهم أفضل من حاضرنا.

إن سن هؤلاء الطلاب تسمح لهم بفهم احتياجات المجتمع أكثر منا، ويمتازون بأن عقولهم لا تزال نشيطة ويطغى عليها الابتكار والإبداع فتسمع منهم أفكارا خارجة عن الصندوق، وتشاهدهم يقدمون حلولا جذرية لمشاكل تعودنا عليها. وكل هذه المشاريع تعرض فقط أمام المشاركين من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، ومن ثم تقدم بعض الجامعات – مشكورة- جائزة بدعم الفكرة الفائزة (حسب تصويت منسوبي الجامعة)، أما الأفكار والمشاريع الطلابية الأخرى فأغلبها تنتهي مع انتهاء حياتهم الجامعية. وبعد انتهاء هذه الحياة الجامعية المليئة بالحماس وروح الفريق والتعاون والأفكار النيرة يتجه كل خريج حاملا سيرته الذاتية وشهاداته باحثا عن وظيفة في إحدى مؤسسات الدولة أو في القطاع الخاص.

السؤال: لماذا هذه الأفكار الحماسية والطاقة المذهلة تنتهي مع الشهادة الجامعية؟ لماذا لا يكبر أثر معرض المشاريع؟ أليس من الممكن الاستفادة من خبرات المستثمرين والقطاع الخاص في تحويل هذه الأفكار والمشاريع إلى منشآت تخلق وظائف وتولد اقتصادا جديدا؟ أليست الاقتصادات القوية مبنية على منشآت صغيرة ومتوسطة؟ إني حين أسمع وأقرأ عن شركات ناجحة في العالم أرى كثيرا منها بدأ في الحرم الجامعي. شركة قوقل، ومايكروسوفت، وفيس بوك، حتى فيديكس ومجلة التايمز، كل هذه الشركات طبخها طلاب في الحرم الجامعي. ولكن الفرق بينهم وبين طلابنا أنهم وجدوا من يتبناهم ويجعلها حقيقة. مهما كان الطالب مبتكرا ومبدعا إلا أنه يحتاج إلى خبرة المستثمر، ولله الحمد أن أهل هذا البلد لا ينقصهم الحس الإبداعي ولا الخبرة الاستثمارية، ولكن ينقصهم من يسهل عملية الالتقاء والاتصال والشراكة.

فكم كنت أتمنى أن أشاهد الشركات وكبار المستثمرين يتجولون خلال المشاريع ويرشدون وربما يشاركون الطلاب في تحقيق أحلامهم وبناء منشآت تساهم في ازدهار البلاد بشكل عام.

قفلة:

يوجد شخص ما، في مكان ما في أحد الكراجات يجهز للقضاء علينا. أعرف ذلك، لأننا منذ فترة ليست بالبعيدة كنا في نفس هذا الكراج. التغيير يأتي من حيث لا تتوقع

إيرك شميت (مؤسس شركة قوقل)

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

ماذا بعد الرؤية؟

قد يتفق الكثير مع تفاصيل رؤية المملكة العربية السعودية 2030 ويختلف معها آخرون، وهذا أمر مفهوم ومقبول، بل إنه محمود ومطلوب. فالاختلاف سنة إلهية ماضية إلى يوم القيامة، ولولا تنوع الآراء وتعارضها لما أبدع الإنسان. ولكن مما لا اختلاف فيه هو ضرورة وجود رؤية ترسم لنا ولأبنائنا معالم مستقبل هذا البلد، فكما استفدنا ممن سبقونا أن الفشل في التخطيط هو التخطيط للفشل.

هنا لن أتحدث عن تفاصيل الرؤية وما لها وما عليها، ولكن سأتحدث عن آلية تحقيق رؤية أقرت وأعلنت والمطلوب من الجميع المساهمة في تحقيقها. ذكر ولي العهد – مهندس الرؤية – في لقائه مع قناة CBS أن من أهم وأول تحدياتها هي إيمان الناس بها. وهذا بلا شك تحد كبير، ولكنه تحد متوقع وتؤكده إحدى النظريات الإدارية النفسية التي تذكر أن مراحل قبول التغيير ثلاث: الصدمة والنكران، ثم الغضب والكآبة، وأخيرا القبول والاندماج. وإن شاء الله أننا سنصل جميعا للقبول والاندماج مع الوقت وممارسة الإجراءات اللازمة للوصول لهذه المرحلة.

وهناك تحد آخر لا يقل أهمية عن إيمان الناس بالرؤية، وهو إيجاد قدرات وتأهيل كفاءات تساهم بفاعلية في تحقيق هذه الرؤية، فهي لن تتحقق إلا بمواطني هذا البلد من رجال ونساء. فهل شبابنا وشاباتنا مؤهلون لتحقيق أهداف الرؤية؟ وهل هم مستعدون للتغير الذي ترجوه الرؤية؟

يجب ألا ننسى أن الرؤية ليست قصيرة المدى، ولكنها تمتد إلى أكثر من 10 سنوات، وهذا يعني أن من سيحمل لواء التغيير والتحول وبإذن الله الاستمرارية في النهضة موجود حاليا في مدرسته، فهل ما تقدمه المدارس يواكب ما نطمح له؟ إن هؤلاء الشباب – ممن نتوقع منهم المساهمة في تحقيق الرؤية – يعيشون في ظروف تختلف عما عاشه من رسم الرؤية. فلا الطموح نفس الطموح، ولا اللغة نفس اللغة، وحتى القيم والثقافات وربما المعتقدات اختلفت. فالجيل الجديد تشكل من خلال تداخلات كثيرة وكبيرة نتيجة للعولمة وسهولة التواصل والانخراط في عالم وسيع أوسع مما عشناه. نعم هم من أبناء هذا الوطن، ولهذا الوطن تأثير عليهم، ولكن التأثير من الخليط من المجتمعات والثقافات الذي انفتحوا له أكبر في تكوين شخصياتهم. لذلك أعتقد أن رؤية بهذا الطموح تحتاج لبرنامج أساسي يدرس وضع الأجيال القادمة ومحاولة فهم متطلباتهم وقدراتهم ومعرفة البيئة المحببة لهم ثم على إثر هذه الدراسة ترسم خطط لتأهيلهم واستغلال إمكانياتهم وخلق بيئات مناسبة لهم لتكون الرؤية حقيقة. فبتسليح هذا الجيل بالعلوم الجديدة والمهارات المطلوبة والثقافة العالية فقط تتحقق الرؤية.

قفلة:

من أهداف رؤية «2030 الارتقاء بمؤشر رأس المال الاجتماعي من المرتبة 26 إلى المرتبة 10»، وكيف يمكن لرأس المال الاجتماعي أن يرتقي بدون فهم وتأهيل جيل يشكل 70% من المجتمع السعودي؟

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

المراعاة تعني الذكاء

يطمح كل منا أن يتحلى بمكارم الأخلاق، فيراجع الإنسان نفسه، ويرى ما به من قصور وخلل، فيسعى لإصلاح ذاته والتطبع بالأخلاق الحميدة. ومما يفعله الإنسان في هذا الشأن هو قراءة سير العظماء والاقتداء بمن سبقه من الأخيار، ثم يبحث عن أسباب حفرت أسماء هؤلاء البارزين في صفحات التاريخ، فتخليد الأسماء لا يتطلب قدرات عظيمة فحسب بل يقتضي الاتسام بأخلاق طاهرة رفيعة. ومن هذه الأخلاق التي نتهاون فيها، رغم سهولة التطبع بها إلى أن تصبح طبعا فينا، خلق مراعاة الخواطر.

سأذكر قصة قرأناها في سيرة سيد الخلق العظيم محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لعلها توحي عمق هذا الخلق الرفيع الذي لا يتحلى به إلا العظماء الكرام. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته عن سبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب، فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال المصطفى الكريم: «أنت منهم» ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال صاحب الخلق العظيم: «سبقك بها عكاشة»، متلطفا بالجواب مع هذا السائل، ولم يقل له ليس لك من الأعمال ما تبلغ به مبلغ السبعين ألفا. وهذا مثال يسير من كمال أدب وعظم خلق الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم. فالفظاظة والخشونة واختيار الكلمات السيئة من المنفرات التي لا ندركها في حياتنا مع الآخرين، ويؤكد ذلك ربنا وخالقنا في كتابه المبين فقال عز من قائل «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك».

إني حين أراجع نفسي وتعاملاتي مع الآخرين أراني بعضا من الأحيان ناصحا للمذنب، وموجها للمقصر، ومصححا للمخطئ، وأفعل ذلك وأنا معتقد أني دال للخير ومحب لهم. ولكن هل هذا الشعور يصل لمن أتعامل معهم؟ وهل يتقبلون نصحي وإن كان صحيحا؟

هذه المراجعات جعلتني أتدارك هذا الخلق الذي قد أغفل عنه في تعاملاتي. فمما غفلته أنه من المنازل العظيمة لمن سبقونا وممن نتعلم منهم من الأخيار أنهم يراعون من يخاطبون، وينزلون الناس منازلهم، ويعرفون كيف يختارون الكلمة. فمخاطبة البسيط والضعيف لها أساليب خاصة تجبر فيها خواطرهم، وتطيب فيها نفوسهم، فالكلمة الطيبة لأي جهد يقومون به له درجة عظيمة في نفوسهم. وأما معلموك ووالداك فلهم أساليب مختلفة في التعامل معهم، فمهما حصل منهم ومهما بدر منا يجب علينا أن نعلي مكانتهم ونرفع قدرهم. وكذلك المسؤول والوجيه فلهما طريق أخرى ليستمعا ويتقبلا فيه رسالتنا ووجهات نظرنا. ولا يتحلى بهذا الخلق إلا الرفيع صاحب المكانة العالية، وممن فهموا النفوس وتراهم أكثر الناس ذكاء اجتماعيا.

قفلة:

إن من أسماء الله سبحانه وتعالى «الجبار» ومن معاني هذا الاسم أنه يجبر الضعيف، ويجبر الكسير، ويجبر المنكسرة قلوبهم.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

اجلد ذاتك

إنا عادة – كمجتمع – ننتقد من يجلد الذات لما في ذلك من دعوة للإحباط، ومن مبالغة في تحميل الذات أخطاء لا يمكن احتمالها، وأيضا هي وسيلة لبث روح الانهزامية. فانتقاد هذه الظاهرة أمر مفهوم، أما ما لا أفهمه هو انتقادنا لشيء غير موجود في مجتمعنا ولا أراه بين كتابنا ولا أسمعه في برامجنا ومجالسنا. إن ما نظنه جلدا للذات ما هو إلا جلد للمحيط الذي نحن فيه. فعندما نتهم الحكومات بالتقصير، وعندما ننكر على التجار غلاء الأسعار، وعندما نلوم المثقفين على الانعزال عن المجتمع، وعندما نذم أصحاب الرأي على ابتعادهم عن هموم المجتمع، وعندما نعيب بعض ثقافاتنا التي ورثناها من آبائنا، ونشتكي من تناقض عاداتنا وتقاليدنا التي فرضت علينا، إننا بذلك لا نجلد الذات بل نهرب من الحقيقة ونتهم محيطنا وكأننا لسنا جزءا منه.

إن جلد الذات مرحلة متقدمة من مراجعة النفس وتحليل تصرفاتها، ومحاولة لتهذيبها، وهذا ما نحن أحوج إليه في هذا الزمن، لا انتقاد المحيط وكأن المجتمع شيء ونحن كأفراد أشياء أخرى. إننا إن راجعنا مبادئنا وراقبنا أعمالنا وأقوالنا ودورنا في تصحيح واقعنا لكان أنجع وأسلم الطرق للإصلاح والتصحيح بدلا من جلد الآخرين ظانين أننا نجلد ذواتنا. فمثلا، هذا المقال هو أحد الأمثلة لما نعتقده جلدا للذات، فكلامي موجه للقراء وكأني لست جزءا منهم، وكأن الخطأ الذي يقع فيه المجتمع لا أقع فيه. فليتني قبلكم ركزت على أفعالي وأقوالي قبل الالتفات لمن حولي.

فليس من المعقول ألا أؤدي عملي البسيط في دائرتي الصغيرة على أكمل وجه ثم أنتقد غيري من المسؤولين. وليس منطقيا أن أسهر الليل وأنام النهار ثم ألوم رجال الأعمال على ضعف دورهم في تحسين الوضع الاجتماعي. ومن الظلم أن أكتب مقالة في دقائق أسخر فيها من فريق وصل الليل بالنهار لإنجاز عمل معين.

طبعا، أنا هنا لست مدافعا عن أحد، ولا أصادر حق الانتقاد من أحد، ولكن أعتقد أنه إن كان بنا خلل وضعف، فهما من جهل أدوارنا كأفراد في تصحيح الخلل، وأننا استسهلنا انتقاد المحيط، فقليل منا راجع ذاته وحاول إصلاحها إصلاحا يفيد المجتمع.

يرشدنا الله تعالى إلى أساليب الإصلاح والتغيير والتطوير وذلك في سورة الرعد فقال – عز وجل «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، وهنا دلالة على أن تغيير القوم (المجتمع) لن يتم إلا بتغيير النفس (الفرد). فلو نعي ذلك ونلتفت إلى أنفسنا ونراجعها ونحلل تصرفاتنا لما كنا في صراع دائم مع أفراد المجتمع في توجيه أصابع الاتهام إلى بعض. فكلنا خطاؤون، وكلنا لم يصل للكمال، فليتنا نراجع أنفسنا أو حتى نجلد ذواتنا للوصول إلى مرحلة قريبة من ذلك الكمال بدلا من جلد من لا نملك سلطة على تغييرهم.

قفلة:

فيما مضى كنت أحاول أن أغير العالم، أما الآن وقد لامستني الحكمة، فلا أحاول أن أغير شيئا سوى نفسي

جلال الدين الرومي

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

اعمل شكرا

يراجع الإنسان نفسه ويتأمل في أحواله بين فينة وأخرى ليرى ما أنجز وما عمل وقدم. ولعل نهاية العام الميلادي مدعاة لهذه المراجعة. ففي هذه الأيام راجعت نفسي ودونت ما قمت به وما فشلت في إتمامه، وجدتني أخوض معركة الحياة محاولا أن أكون سببا في إصلاح أو تغيير وتطوير من خلال أسرتي وأصدقائي وعملي. ووجدتني كذلك أصارع لأترك أثرا من خلال ما أكتب في هذه الصحيفة أو في تويتر ومن خلال المناقشات مع من أجالسهم. باختصار، إن كل ما أقوم به هو أني أريد الأفضل لي ولأسرتي ولوطني، فأنجزت جزءا بسيطا مما أطمح، ولا يزال العمل مستمرا للمزيد من خلال الدوائر التي أنا فيها. رغم كل ذلك، اكتشفت -بعد التأمل- أني أخوض هذه المعركة بطريقة خاطئة وظالمة.

إن همي لحياة أفضل جعلني لا أستوعب الزحام الكبير من النعم التي أنا وأهلي ووطني فيها.

انتبهت أني مقصر في شكر الله على هذه النعم والتي قد تفنى لو لم ندركها ونشكر رازقنا عليها. فشكر الله عبادة وسبب في استمرار النعم وبقائها. ألا نستنتج من قصة سليمان عليه السلام بعد أن آتاه الله الملك والخير أن النعم تدوم بالشكر؟ وذلك حين قال كما ورد في القرآن الكريم «هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم». هذا من الجانب الديني أو الواجب الرباني تجاه النعم، أما من الجانب النفسي فلقد أيقنت أني لو أمضيت جزءا من يومي متأملا ومتلذذا بهذه النعم لكان أولى وأهم من سعيي الحثيث على التغيير والتحسين. لأن في تأمل النعم طاقة إيجابية ودافعا لبذل مزيد من الجهد والعطاء. إن الشعور الدائم بالنقص وأن نرى الأشياء بعين باحثة عن القصور هو شعور هدام، محبط، وقاتل للإنتاجية. لهذا السبب سأحاول أن أغير من حالي لأكون أكثر شكرا لله وأحرص على اكتشاف هذه النعم الموجودة بدلا من البحث عن المفقودة.

إن أولى خطوات شكر النعمة هي محاولة معرفتها، ولا يمكننا معرفتها كلها وحصرها من كثرها. فمهما نالنا من مصائب وأزمات، لا تزال النعم أكبر وأكثر من تلك المصائب. ولهذا إدراك هذه الحقيقة بحد ذاتها مدعاة للتفاؤل والسعادة والرضا.

فاللهم لك الحمد على ذلك. ومما يجب استيعابه كذلك أن دوام الحال من المحال، فلنستمتع بما نحن عليه من النعم ولا نكن من الساخطين. يقول الشاعر أبوالبقاء الرندي في رثائه للأندلس التي كانت نعمة على المسلمين قبل أن ينهزموا ويطردوا منها:

هي الأيام كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقي على أحدٍ
ولا يدوم على حال لها شان

إن مختصر ما آل إليه تأملي هو أن الدنيا الغالب فيها النعم والخير، فشكر الله هو المشعل في هذه الحياة وسبب للطموح والعمل لعالم أجمل.

قفلة:

الشكر عمل وليس قولا. ألم يقل ربنا عز وجل «اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور»؟

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

سر النجاح

الجميع يبحث عن النجاح لنفسه ولعمله ولوطنه، وللوصول إلى النجاح نسعى دوما للاستفادة من تجارب الآخرين الذين سبقونا لقمم النجاح. هنا، لن أتحدث عن النجاح أو طرقه، ولكن سأتحدث عن محاولاتنا في الاستفادة من تجارب الآخرين. فبعضنا يفتقد للفهم الحقيقي والتحليل العميق لتجارب الآخرين فتراه يختزل النجاح في خطوات صغيرة وبسيطة لا يمكن الاستفادة منها استفادة ناجعة.

فمثلا، رائد الأعمال الناشئ يقرأ بعض الاقتباسات ويسمع بعض الخطب الحماسية عن نجاح رجال الأعمال الكبار، ويرى أنهم كانوا أهل مخاطرة ويمضون ساعات كثيرة في أعمالهم ولا ينامون إلا ساعات قليلة في يومهم، فيظن أن هذه العناصر فقط هي أسباب النجاح. وأؤكد على كلمة فقط. فلا تحليل عميقا أجراه عن كل حالة نجاح ليفهم أن الأمر يتطلب أكثر من بعض الممارسات الحياتية، فالنجاح ليس له وصفة بسيطة تختزل في نصيحة تقتبس.

وهذا الفهم الخاطئ ينطبق على أمور أخرى، ففي أحد النقاشات مع ولي أمر طالب صادفته في لقاء ودي تحدث عن انزعاجه من كثرة الواجبات المنزلية التي يقوم بحلها ابنه، ويؤكد أن تعليمنا لن يرتقي ما دامت الواجبات جزءا من نظامنا التعليمي. وحجة ولي الأمر أن الطالب المدرسي في فنلندا – المصنفة أفضل نظام تعليمي عالميا – لا يحل أي واجب منزلي. ومثل هذا الاختزال البسيط في تخلف التعليم وتميزه مدعاة للاستنكار، وبعض الأحيان الغضب. فكيف يصنف التعليم بممارسة بسيطة مثل حل الواجبات؟ لا شك أن الواجبات المنزلية محل نقاش في أهميتها في التعليم من عدمه، لكن من الجهل والسطحية أن نحكم على نظام تعليمي كامل بممارسة بسيطة مثل الواجبات المنزلية.

أما ما جعلني أكتب هذا المقال فهو حين كثر النقاش حول رؤية المملكة لعام 2030 في مجالسنا الخاصة وفي وسائل إعلامنا المرئية والمقروءة، وأسمع من يقارن حالنا بحال دول آسيوية وأوروبية سبقونا في التقدم الاقتصادي والصناعي والبشري. في هذه النقاشات أسمع اختزالات كبيرة لتجارب الدول الأخرى وتبسيط أسباب نجاحهم جعلتني أقرأ أكثر عن هذه الدول ومحاولة فهم ما مروا به من تغيرات وتحولات ونجاحات وفشل. إن تجاربهم معقدة جدا ويتطلب الأمر لجهود أصحاب فكر وخبرة للاستفادة من تلك التجارب. أما أن نقرأ مقالا أو نشاهد فيلما وثائقيا مدته ساعتان ثم نقترح مواءمة ما استوعبناه لتحقيق رؤيتنا الخاصة فهو الجهل بعينه.

خلاصة ما أود قوله، لكل تجربة نجاح معطيات مختلفة ومحاولات خاصة ببيئات متباعدة وإمكانيات متفاوتة، لذلك لا يمكن لأي تجربة أن تتكرر. نعم نستفيد منها ولكن لا يمكننا استنساخها.

وللاستفادة من تلك التجارب، يتطلب الأمر تدخل الجامعات لإقامة دراسات حالات (case studies) ومراكز أبحاث مستقلة (Think Tanks) لتقييم كل تجربة وتدوينها في أبحاث علمية يمكن للدارس قراءتها لفهمها الفهم الصحيح والاستفادة منها في تجاربه العملية. أما الاقتباسات والنصائح التي تكتب في قروبات الواتس اب وتويتر والخطب التحفيزية التي نشاهدها في اليوتيوب ما هي إلا أدوات بسيطة تحفيزية داعمة، وليست سببا رئيسيا في فهم طريق النجاح.

قفلة:

هناك فرق كبير بين معرفة تجارب الآخرين وفهم نجاحهم.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

حلطمة محبط

شعور غريب يراودني هذه الأيام. شعور شكنني في معتقداتي وجعلني أراجع قناعاتي. شعور إحباط لم أشعره من قبل، وأرجو الله ألا يطول. لعل هذا الشعور ناتج مما نعيش هذه الفترة من التحولات والصراعات والتخبطات والأزمات، والتي نسأل الله فيها دائما السلامة.

عشت عمري كله معتقدا أن الأزمات مدعاة لتوحيد صفوفنا وسببا لتقوية لحمتنا وفيها نسعى للدفاع عن بعضنا، إلا أن ما يحدث هذه الأيام من تفتيت أواصر هذه اللحمة وصراعات لا منطق فيها شككني في أن ما ربينا عليه من ثوابت مشتركة، وما حفظنا من قصائد وأشعار الأخوة والوحدة ما هو إلا وهم وخيال تمناه بعضنا فأنشدناها بعواطفنا جاهلين حقيقتنا. فللأسف تجاهلنا الكثير الذي يجمعنا وركزنا على القليل الذي يفرقنا. فيا بؤس حالنا ويا تفاهة فرقتنا.

كما أن في هذا الكم الهائل من التغيرات والتحولات تختلف بعض وجهات النظر وتكثر فيها الآراء، وهذا ما ظننته طبيعيا وصحيا، ولكن ما يحدث من تسفيه وتحقير للآراء المختلفة أمر صدمني وجعلني أتساءل: هل منظومة الأخلاق التي علمني إياها والدي في صغري قضى عليها الزمن وأصبحت من الماضي المزيف؟ وهل أصبح اختلاف الرأي خيانة؟ وهل أصبح السباب والألفاظ النابية التي تتداول في القنوات الرسمية وغير الرسمية هو الكلام الدارج في الأوساط الاجتماعية؟ ألم تكن تسمى سابقا بكلام الشوارع؟ أفلا يحبط من تتغير عليه هذه الثوابت والمفاهيم؟

أما المفكرون وأصحاب الرأي، فلقد عشت حياتي أقتدي بهم لما يملكون من قوة في الحجة وأدب في الطرح ومبادئ ثابتة لا تتغير، وفوق هذا كله تقبلهم للآخرين، ولكن الآن لا أعلم هل ولى المفكرون؟ أم إني تخيلت أنهم مفكرون أصلا؟ أصبحت حججهم التخوين والتخويف والتشكيك، وأما المبادئ التي كانت ثابتة فقد أصبحت متناقضة ومتعارضة، وكأنهم أشخاص استبدلوا بأشخاص آخرين، ليست فقط قناعات تغيرت مع الزمن. فهل أحزن عليهم، أم على نفسي التي ظنت أنهم مفكرون وأصحاب رأي؟

عزيزي القارئ، أعتذر عن القسوة في الطرح وربما المبالغة في شرح الواقع والجهل في التعميم. أعتذر لأني لا أعلم إن كانت هذه الحالة موقتة لوضع نفسي أمر فيه، أم إنه واقع للتو أستوعبه وعلي التعايش معه. أعتذر لأني ولأول مرة لم أبحث عن الفائدة المرجوة من مقالي هذا. كل ما في الأمر أني تركت قلمي يسير ويكتب من غير قيود فأنتج هذه الحلطمة دون تفكير ودون مراجعة. جعلته يعبر عن حالة، وما الكتابة إلا انعكاس لحالة نفسية الكاتب.

قفلة:

رغم ما ينتابني من إحباط إلا أن ما يبقيني حيا ومتماسكا هو أن مدبر هذا الكون وخالقه هو الله سبحانه وتعالى، وإيماني بأن ما نعيش من صراع ما هو إلا ابتلاء منه ليميز الخبيث من الطيب. وأرجو الله أن يكون الطيب هو السائد وهم الأغلبية الصامتة.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة

عندما يكون المعلم مربيا

زارت والدة الطالب «جيمس» مدرسة ابنها للتأكد من مستواه الدراسي، وأثناء زيارتها قابلت معلمة الرياضيات فسألتها عن سر أسئلة نهاية الأسبوع التي تقدمها المعلمة لطلابها في الصف الخامس، وما علاقة هذه الأسئلة بمادة الرياضيات.

ابتسمت المعلمة وشرحت لها أن دورها لا ينحصر في تقديم المادة العلمية، ولكنه يتجاوز ذلك بكثير، فالطلاب – كما تعتقد المعلمة – مسؤولية عظيمة وتعليمها القراءة والكتابة والحساب من أقل الضرورات التي على المعلمة القيام بها. فكما أن الطالب عقل وجسد، فهو روح وقلب، وعلى المعلم الاهتمام بهذا الجانب المهم. فهي كمعلمة تسعى لبناء قلوب رحيمة وأرواح محبة قبل بناء عقول تعرف الجمع والطرح والضرب والقسمة، ومن هذا المنطلق أعدت هذه الأسئلة التي تقدمها كل يوم جمعة لطلابها الصغار.

تشرح المعلمة عملها بأنها كل نهاية أسبوع تطلب من طلابها كتابة أسماء زملائهم الذين يودون الجلوس معهم في الأسبوع القادم، وأيضا ترشيح أفضل طالب لهذا الأسبوع على ورقة خارجية، ثم تأخذها منهم مؤكدة أنه لا أحد سيقرؤها سواها، وتوضح لهم أن طلباتهم ليس بالضرورة ستنفذ. وبعد أن تأخذ الأوراق، تقوم بتحليلها لتجيب على الأسئلة التالية: من من الطلاب لم يتم اختياره؟ من من الطلاب لا يعرف من يختار؟ من من الطلاب الذين لم يرشحوا للقب أفضل طالب في الأسبوع؟ من من الطلاب الذين اختيروا في السابق ثم لم يختاروا لهذا الأسبوع؟ تسأل المعلمة هذه الأسئلة لكي تعرف من من طلابها وحيد وغير مرغوب من البقية. إن ما تقوم به المعلمة هو أشبه بعمل «أشعة» قلبية لطلابها، فتحاول أن تعالجها قبل أن تكسر هذه القلوب بأسباب كالتنمر أو الشعور بالعزلة عن المجتمع. وبناء على نتائج هذه الأشعة، تفعل المعلمة برامج لتعزز من ثقة الذي لم يختر وتخلق بيئة تسود فيها المحبة بين الطلاب المستثنين من قائمة الأصدقاء.

انبهرت والدة «جيمس» مما تقوم به المعلمة وحيتها على ذلك، وسألتها منذ متى وهي تقوم بهذا الروتين؟ فأجابت «المربية» أنه بعد حادثة مجزرة ثانوية «كولمباين»، والتي كان سببها طلاب شعروا بكره عميق تجاه المدرسة والطلاب، فأطلقوا النار عليهم وقتلوا أكثر من عشرين بريئا، قررت أن يكون لها دور في إنقاذ الطلاب من أي حوادث مشابهة من خلال تربيتهم على الحب والرحمة.

حين سمعت قصة معلمة «جيمس» من زميلي، شعرت بقشعريرة غريبة! فأي عطاء وإخلاص تمتلكه هذه المربية العظيمة؟ لم تكتف بأداء عملها المطلوب، بل تجاوزت الواجب بكثير لأنها مؤمنة بأن الإنسان صاحب رسالة ومساهم في بناء الأرض وإعمارها قبل أن يكون موظفا

أو معلما. فما أجمل هذا الإنسان إن أدى الأمانة وأخلص لها وترك بصمة في هذه الحياة حتى لو لم يرها أحد فيكفي أن يرضي ضميره. متأكد أن لدينا في وطننا مثل هؤلاء المخلصين خلف الأضواء يعملون بصمت ويتركون أكبر وأهم الأثر، وأعرف أنهم يقومون بذلك غير باحثين عن الشكر أو الثناء. فلهم أدعو الله وأقول، الله يكتب لكم الأجر والثواب في الدنيا والآخرة ويرزقكم الرضى حيث كنتم.

قفلة:

إن من صفات الأبرار التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة الإنسان أنهم يفعلون الخير لوجه الله لا ابتغاء للجزاء ولا الشكر.

نشرت هذه المقالة في صحيفة مكة